الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 289 ] ( ولو كان القذف بولد نفى القاضي نسبه وألحقه بأمه ) وصورة اللعان أن يأمر الحاكم الرجل فيقول : أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتك به من نفي الولد ، وكذا في جانب المرأة ( ولو قذفها بالزنا ونفى الولد ذكر في اللعان الأمرين ثم ينفي القاضي نسب الولد ويلحقه بأمه ) لما روي { أن النبي عليه الصلاة والسلام نفى ولد امرأة [ ص: 290 ] هلال بن أمية عن هلال وألحقه بها } ولأن المقصود من هذا اللعان نفي الولد فيوفر عليه مقصوده ،

[ ص: 291 ] فيتضمنه القضاء بالتفريق . وعن أبي يوسف أن القاضي يفرق ويقول : قد ألزمته أمه وأخرجته من نسب الأب لأنه ينفك عنه فلا بد من ذكره ( فإن عاد الزوج وأكذب نفسه حده القاضي ) لإقراره بوجوب الحد عليه

[ ص: 292 ] ( وحل له أن يتزوجها ) وهذا عندهما لأنه لما حد لم يبق أهلا للعان فارتفع حكمه المنوط به وهو التحريم ( وكذلك إن قذف غيرها فحد به ) لما بينا ( وكذا إذا زنت فحدت ) لانتفاء أهلية اللعان من جانبها

التالي السابق


( قوله ولو كان القذف بولد نفى القاضي نسبه وألحقه بأمه ) شرط هذا الحكم أن يكون العلوق في حال يجري بينهما فيه اللعان ; حتى لو علق وهي كافرة أو أمة ثم عتقت وأسلمت فنفي نسب ولدها لا ينتفي ولا تلاعن لأن انتفاءه إنما يثبت شرعا حكما للعان ولا لعان بينهما ، ولأن نسبه كان ثابتا على وجه لا يمكن قطعه فلا ينقطع ، والله أعلم .

وفي الذخيرة لا يشرع اللعان بنفي الولد في المجبوب والخصي ومن لا يولد له ولد لأنه لا يلحق به الولد ، وفيه نظر لأن المجبوب ينزل بالسحق ويثبت نسب ولده على ما هو المختار ، ولا لعان في القذف بنفي الولد في نكاح فاسد .

وعند الشافعي وأحمد يجب اللعان به ، وكذا في نفيه من وطئ بشبهة . وعند أبي يوسف فيهما الحد واللعان لأنه يلحقهما بالنكاح الصحيح .

وفي الذخيرة : قذفها بنفي ولدها فلم يلتعنا حتى قذفها أجنبي به فحد الأجنبي يثبت نسب الولد من الزوج ولا ينتفي بعد ذلك لأنه لما حد قاذفها حكم بكذبه ( قوله وصورة اللعان ) أي في القذف بنفي الولد ( قوله لما روي أنه { صلى الله عليه وسلم نفى نسب ولد امرأة هلال } ) [ ص: 290 ] قيل إنه غلط ، فإنه لم يكن لامرأة هلال ولد ولا قذفها بنفي ولد . وقيل المراد بنسب ولدها الذي أتت به فإنها حملت من الوطء الذي قذفها به ، والحديث في البخاري وأبي داود تختلف ألفاظهما وتتفق .

عن ابن عباس قال : { جاء هلال بن أمية من أرضه عشاء فوجد عند أهله رجلا ، فرأى ذلك بعينيه وسمع بأذنيه فلم يهجه حتى أصبح ثم غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني جئت أهلي عشاء فوجدت عندهم رجلا ، فرأيت بعيني وسمعت بأذني ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به واشتد عليه فنزلت { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم } الآية فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا ، قال هلال : قد كنت أرجو ذلك من ربي سبحانه وتعالى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرسلوا إليها فجاءت ، فتلا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية وذكرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا ، وقال هلال : والله لقد صدقت عليها ، فقالت كذبت . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لاعنوا بينهما فشهد هلال أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فلما كانت الخامسة قيل له اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وإن هذه هي الموجبة التي توجب عليك العقاب فقال والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني الله عليها فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به من الزنا ، ثم قيل لها اشهدي ، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين . فلما كانت الخامسة قيل لها اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وإن هذه هي الموجبة التي توجب عليك العقاب ، فتلكأت ساعة ثم قالت : والله لا أفضح قومي ، فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماها به ، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ، ، وقضى أن لا يدعى ولدها لأب ولا ترمى ولا يرمى ولدها ، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد ، وقضى أن لا يثبت لها عليه سكنى ولا قوت من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن جاءت به أصيهب أو أريصح أثيبج ناتئ الأليتين حمش الساقين فهو لهلال . وإن جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الأليتين فهو للذي رميت به ، فجاءت به أورق إلى آخر الأوصاف الثانية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لولا الأيمان لكان لي ولها شأن } . قال عكرمة : وكان ولدها بعد ذلك أميرا على مصر وما يدعى لأب ، هذه في لفظ أبي داود . وفي رواية أخرى : { سائر اليوم لا أفضح قومي } . وفي مسلم والنسائي عن أنس { أن هلال بن أمية . قذف امرأته بشريك ابن سحماء وكان أخا البراء بن مالك لأمه ، وكان أول رجل لاعن في الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : انظروها فإن جاءت به أبيض سبطا قضيء العينين فهو لهلال بن أمية . وإن جاءت به أكحل جعدا حمش الساقين فهو لشريك ابن سحماء ، قال : فأنبئت أنها جاءت به أكحل جعدا حمش الساقين } . فهذا وما قبله يدل على أنها كانت حاملا وقطع نسب الولد الذي تأتي به . وفي سنن النسائي أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لاعن بين العجلاني وامرأته وكانت حبلى . } وأخرجه عبد الرزاق هكذا أيضا . وقال زوجها : ما قربتها منذ [ ص: 291 ] عفار النخل ، وعفار النخل أنها كانت لا تسقى بعد الإبار بشهرين ، { فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم بين ، فجاءت بولد على الوجه المكروه } .

وروى ابن سعد في الطبقات في ترجمة عويمر { عن عبد الله بن جعفر قال : شهد عويمر بن الحارث العجلاني وقد رمى امرأته بشريك ابن سحماء وأنكر حملها فلاعن بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حامل ، فرأيتهما يتلاعنان قائمين عند المنبر ، ثم ولدت فألحق الولد بالمرأة وجاءت به أشبه الناس بشريك ابن سحماء ، وكان عويمر قد لامه قومه وقالوا امرأة لا نعلم فيه إلا خيرا ، فلما جاء الشبه بشريك عذره الناس ، وعاش المولود سنتين ثم مات ، وعاشت أمه بعده يسيرا ، وصار شريك بعد ذلك عند الناس بحال سوء } . قال الواقدي : وحدثني غير الضحاك بن عثمان أن عويمرا من فساق الحديث ، إلى أن قال : ولم يحد رسول الله صلى الله عليه وسلم عويمرا في قذفه شريك ابن سحماء . وشهد عويمر بن الحارث وشريك ابن سحماء أحدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففي هذا أن الولد عاش سنتين ومات ونسبه ما نسب في قصة هلال إلى شريك إليه أيضا في قصة عويمر . قيل ويجمع بينهما بأنهما واقعتان وفي النفس منه شيء . وفي الصحيحين أيضا في { قصة هلال عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم بين فوضعت شبيها بالذي ذكر زوجها أنه وجد عند أهله ، فلاعن بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم } وفي هذا أن اللعان بينهما كان بعد الوضع وفيما تقدم خلافه وهذا تعارض ( قوله فيتضمنه القضاء إلخ ) أي يثبت قطع النسب في ضمن القضاء بالتفريق ( قوله وعن أبي يوسف أن القاضي يفرق إلخ ) أي لا يثبت قطع النسب ضمنا للتفريق ، لأنه : أي التفريق باللعان ( قوله ينفك عنه ) أي عن نفي الولد ، كما لو مات الولد قبل اللعان فإنه يفرق بينهما باللعان ولا ينقطع نسب ذلك الولد ، ولو نفى نسب أم الولد انتفى الولد ولا لعان ولا تفريق به ( قوله فلا بد من ذكره ) حتى لو لم يقله لا ينتفي النسب عنه .

قال شمس الأئمة : هذا صحيح ، ولو مات الولد عن مال فادعى الملاعن لا يثبت نسبه ويحد ، فلو كان قد ترك ولدا يثبت نسبه من الأب وورثه الأب لاحتياج الحي إلى النسب ، ولو ترك بنتا ولها ابن فأكذب الملاعن نفسه يثبت نسبه عند أبي حنيفة خلافا لهما . وقيل الخلاف على العكس . له أن الابن يعير بانتفاء نسب أمه كأبيه فهو محتاج إلى ثبوت نسبها ( قوله فإن عاد الزوج فأكذب نفسه ) أي بعد اللعان ونفي الولد [ ص: 292 ]

( قوله وهذا عندهما ) أي عند أبي حنيفة ومحمد على ما سبق ( قوله وكذلك إن قذف غيرها إلخ ) على وزان ما قدمنا في زوال الأهلية بعد اللعان بالقذف بمجرد الزنا ( قوله وكذا إذا زنت فحدت ) قيل لا يستقيم لأنها إذا حدت كان حدها الرجم فلا يتصور حلها للزوج بل بمجرد أن تزني تخرج عن الأهلية ولذا أطلقنا فيما قدمناه . ومنهم من ضبطه بتشديد النون بمعنى نسبت غيرها للزنا وهو معنى القذف ، فيستقيم حينئذ توقف حلها للأول على حدها لأنه حد القذف ; وتوجيه تخفيفها أن يكون القذف واللعان قبل الدخول بها ثم زنت فحدت ، فإن حدها حينئذ الجلد لا الرجم لأنها ليست بمحصنة . واستشكل بأن زوال أهلية الشهادة بطرو الفسق مثلا لا يوجب بطلان ما حكم به القاضي عنها في حال قيام العدالة فلا يجب بطلان ذلك اللعان السابق الواقع في حال الأهلية ليبطل أثره من الحرمة .




الخدمات العلمية