الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإن كان الطلاق ثلاثا في الحرة أو ثنتين في الأمة لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره نكاحا صحيحا ويدخل بها ثم يطلقها أو يموت عنها ) والأصل فيه قوله تعالى { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } [ ص: 178 ] فالمراد الطلقة الثالثة ، والثنتان في حق الأمة كالثلاث في حق الحرة ، لأن الرق منصف لحل المحلية على ما عرف ثم الغاية نكاح الزوج مطلقا ، والزوجية المطلقة إنما تثبت بنكاح صحيح ، وشرط الدخول ثبت بإشارة النص وهو أن يحمل النكاح على الوطء حملا للكلام على الإفادة دون الإعادة إذ العقد استفيد بإطلاق اسم الزوج [ ص: 179 ] أو يزاد على النص بالحديث المشهور ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام { لا تحل للأول حتى تذوق عسيلة الآخر } روي بروايات ، [ ص: 180 ] ولا خلاف لأحد فيه سوى سعيد بن المسيب . وقوله غير معتبر حتى لو قضى به القاضي لا ينفذ ، والشرط الإيلاج دون الإنزال لأنه كمال ومبالغة فيه والكمال قيد زائد

التالي السابق


( قوله وإن كان الطلاق ثلاثا في الحرة أو ثنتين في الأمة لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره إلخ ) لا فرق في ذلك بين كون المطلقة مدخولا بها أو غير مدخول بها لصريح إطلاق النص ، وقد وقع في بعض الكتب أن في غير المدخول [ ص: 178 ] بها تحل بلا زوج وهو زلة عظيمة مصادمة للنص والإجماع لا يحل لمسلم رآه أن ينقله فضلا عن أن يعتبره لأن في نقله إشاعته وعند ذلك ينفتح باب للشيطان في تخفيف الأمر فيه ، ولا يخفى أن مثله مما لا يسوغ الاجتهاد فيه لفوت شرطه من عدم مخالفة الكتاب والإجماع ، نعوذ بالله من الزيغ والضلال .

ومما صرح فيه بعدم الفرق مختارات النوازل والأمر فيه من ضروريات الدين لا يبعد إكفار مخالفه ( قوله والمراد ) أي المراد بقوله تعالى فإن طلقها ( الطلقة الثالثة ) لأنه ذكرها عقيب الطلقتين في القرآن حيث قال الطلاق مرتان ثم قال فإن طلقها أي الثالثة هذا قول الجمهور .

وذهبت طائفة إلى أن الثالثة هي قوله { أو تسريح بإحسان } فإن { أبا رزين العقيلي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عرفت الطلقتين في القرآن فأين الثالثة ؟ فقال : في قوله { أو تسريح بإحسان } } كذا في المبسوط ، وكأن المراد الخلاف في بيان شرعية الثالثة أنه وقع بلفظ التسريح أو بقوله تعالى { فإن طلقها } إذ لا يمكن الخلاف في أن المراد بقوله فإن طلقها الثالثة لأنه عقبها بقوله فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فالحق أن المراد بالتسريح الثالثة ولا تكرار ، فإن الثاني ذكر شرطا لإعطاء حكم الثالثة ، والأول ذكر لبيان ابتداء شرعية الثالثة .

وحاصله أن يقال شرعها ثلاثا ورتب على الثالثة حكما وبين ذلك بقوله { الطلاق مرتان } وبعد هما إما إمساك بمعروف أو تسريح بثالثة بإحسان ، فإن طلقها الثالثة اختيارا لأحد الأمرين الجائزين له فحكمه أن لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، فتحصل أن كليهما مراد به الثالثة ( قوله لحل المحلية ) فيه ما سبق ( قوله ثم الغاية ) أي غاية عدم الحل الثابت بقوله تعالى { فلا تحل له } هو الزوج الثابت بقوله تعالى { حتى تنكح زوجا غيره } فلذا قلنا لو طلقها ثنتين وهي أمة ثم ملكها أو ثلاثا لحرة فارتدت ولحقت ثم ظهر على الدار فملكها لا يحل له وطؤها بملك اليمين حتى يزوجها فيدخل بها الزوج ثم يطلقها ( قوله والزوجية ) مطلقا ، وكذا الزوج مطلقا إنما يثبت بنكاح صحيح لأن المطلق ينصرف إلى الكامل ، أو لأنه المتبادر عند إطلاقه خصوصا إذا كان مضافا إلى المستقبل دون النكاح الفاسد بخلافه مضافا إلى الماضي ، لأن المراد في الأول التحصن والإعفاف وهو لا يحصل إلا بالصحيح ، وفي الثاني صدق الإخبار وهو يحصل بالتزوج فاسدا ولذا حنث في يمينه لم يتزوج بالفاسد لا في حلفه لا يتزوج ( قوله وشرط الدخول ثبت بإشارة النص إلخ ) ولا يخفى أن على تقدير حمله على الوطء إنما يثبت بعبارة النص لأنه مقصود بالسوق ( قوله حملا للكلام على الإفادة دون الإعادة ) يعني أن الإعادة لازم على تقدير حمل لفظ تنكح [ ص: 179 ] على العقد لأن اسم الزوج يتضمن إعادته لدلالته عليه التزاما ، بخلاف ما إذا حملناه على الوطء وإن كان حينئذ مجازا بالنسبة إلى المرأة إذ هو حال نسبته إليها يراد به التمكين من حقيقته لا حقيقته ، فإن المجاز في الكلام أكثر من الإعادة هذا الوجه على العموم .

ووجه آخر على رأينا وهو أن في حمله على العقد مجازين النكاح في العقد مجاز فإن حقيقته الوطء والزوج في الأجنبي مجاز باعتبار الأول ، وعلى الوطء مجاز واحد وهو النكاح في التمكين والزوج حينئذ حقيقة ( قوله أو يزاد على النص بالحديث المشهور ) هذا إنما يتصور إذا أريد بلفظ تنكح في النص العقد لا على إرادة الوطء فيه ( قوله يروى بروايات ) روى الجماعة من حديث عائشة رضي الله عنها { أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل طلق زوجته ثلاثا فتزوجت زوجا غيره فدخل بها ثم طلقها قبل أن يواقعها أتحل لزوجها الأول ؟ قال : لا حتى يذوق الآخر من عسيلتها ما ذاق الأول } وروى الجماعة إلا أبا داود عن عائشة رضي الله عنها قالت { جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : كنت عند رفاعة القرظي فطلقني فأبت طلاقي فتزوجت بعده بعبد الرحمن بن الزبير بفتح الزاي لا غير وإنما معه مثل هدبة الثوب ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ لا ، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك } وفي لفظ في الصحيحين : { إنها كانت تحت رفاعة فطلقها آخر ثلاث تطليقات } وفي لفظ البخاري { كذبت والله يا رسول الله إني لأنفضها نفض الأديم ولكنها ناشز تريد أن ترجع إلى رفاعة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإن كان كذلك لم تحلي له حتى يذوق عسيلتك قال وكان مع عبد الرحمن ابنان له من غيرها ، فقال صلى الله عليه وسلم بنوك هؤلاء ؟ قال : نعم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا وأنت تزعمين ما تزعمين ، فوالله [ ص: 180 ] لهم أشبه به من الغراب بالغراب } وهو في الموطإ هكذا : أنبأنا مالك عن المسور بن مخرمة بن رفاعة القرظي عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير { أن رفاعة بن سموأل طلق امرأته تميمة بنت وهب ثلاثا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكحها عبد الله بن الزبير فلم يستطع أن يمسها ففارقها ، فأراد رفاعة أن ينكحها فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : لا تحل لك حتى تذوق العسيلة } ووقع في معجم الطبراني عكس ما في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها { كانت امرأة من قريظة يقال لها تميمة بنت وهب تحت عبد الرحمن بن الزبير فطلقها فتزوجها رفاعة رجل من بني قريظة ثم فارقها الحديث ، وفيه فقال والله يا تميمة لا ترجعي إلى عبد الرحمن حتى يذوق عسيلتك رجل غيره } قال لم يروه عن أبي إسحاق إلا سلمة أبو الفضل ( قوله ولا خلاف لأحد فيه ) أي من أهل السنة ، أو المراد الخلاف العالي سوى سعيد بن المسيب فلا يقدح فيه كون بشر المريسي وداود الظاهري والشيعة قائلين بقوله ، واستغرب ذلك من سعيد حتى قيل لعل الحديث لم يبلغه ( قوله لا ينفذ ) لمخالفته الحديث المشهور . قال الصدر الشهيد : ومن أفتى بهذا القول فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين انتهى .

وهذا لأن شرعية ذلك لإغاظة الزوج حتى لا يسرح في كثرة الطلاق عومل بما يبغض حين عمل أبغض ما يباح ( قوله والشرط الإيلاج ) بقيد كونه عن قوة نفسه وإن كان ملفوفا بخرقة إذا كان يجد لذة حرارة المحل ، فلو أولج الشيخ الكبير الذي لا يقدر على الجماع لا بقوته بل بمساعدة اليد لا يحلها إلا إن انتعش وعمل ، والصغير الذي لا يجامع مثله أولى لأنه لا يجد لذة أصلا ، بخلاف من في آلته فتور وأولجها فيها حتى التقى الختانان فإنها تحل به ، وخرج المجبوب الذي لم يبق له شيء يولج في محل الحل : أي في محل الختان فلا يحل بسحقه حتى تحبل .

وفي المبسوط في رواية أبي حفص : إن كان المجبوب لا ينزل لا يحل ولا يثبت نسب الولد منه لأنه إذا جف ماؤه صار كالصبي أو دونه ودخل الخصي الذي مثله يجامع فيحلها . وفي التجريد : لو كان مجبوبا لم يحل ، فإن حبلت وولدت حلت للأول عند أبي يوسف خلافا لمحمد . وفي الخلاصة : لو كان مسلولا وجامعها حلت عند أبي يوسف خلافا لزفر والحسن ويشترط كونه في المحل بيقين ، حتى لو جامعها وهي مفضاة لا تحل ما لم تحبل ، ولو تزوج صغيرة لا يوطأ مثلها طلقها زوجها ثلاثا فوطئها هذا الزوج فأفضاها لا يحلها ، وإن كان يوطأ مثلها حلت وإن أفضاها ( قوله دون الإنزال ) خلافا للحسن البصري لا تحل عنده حتى ينزل الثاني حملا للعسيلة عليه ، ومنع بأنها تصدق معه ومع الإيلاج وإنما هو كمال . وفي مسند أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال { العسيلة هي الجماع } انتهى . فحيث صدق مسمى الجماع تثبت فيه إلا أن في سنده ابن عبد الملك المكي مجهول




الخدمات العلمية