تنبيهات
الأول : ما ذكرناه أن هذا النوع من المسالك هو المشهور ونازع فيه جماعة من المتأخرين ، منهم أبو العباس القرطبي في جدله فقال : إنه شرط لا دليل ، لأن الوصف الذي ينفيه السبر إما أن يقطع بمناسبته فهو التخريج ، أو يعرو عنها فهو الطردي ولا يصح أن يعلل به ، أو لا يقطع بوجوده فيه ولا عدمها فهو الشبه ، فلا بد في العلة من اعتبار وجود المصلحة أو صلاحيتها لذلك . ويلزم منه ما ذكرناه . إلا أن تعين المطلوب في الثاني قطعا ، كقولنا : العالم إما قديم وإما حادث ، محال أن يكون قديما لكذا ، فلزم أن يكون حادثا ، فإن هذا ونحوه برهان قطعي ، وهو المسمى عند المنطقي ب " الشرطي المتصل " . التقسيم إذا كان دائرا بين النفي والإثبات فأبطل أحد القسمين مثلا
وقال في " أصوله " : أكثر النظار عدوا هذا المسلك دليلا على التعليل ، وفيه نظر . وذلك أن ما ينفيه السبر لا بد وأن يكون ظاهر المناسبة ، وهو قياس العلة ، أو صالحا لها ، وهو الشبه ، فالتحقيق أن يقال على التعليل هنا هو المناسبة ، غير أن السبر عين دليل الوصف ، ، وكذلك في سائر المسالك النظرية ، فليس مسلكا بنفسه ، بل هو شرط المسالك النظرية . وقد حكي عن قوم من فالسبر إذن شرط ، لا دليل الأصوليين في الدوران أنه شرط للعلة لا تثبت مع دليل عليها ، وهو يتمشى مع ما ذكرناه في السبر ، وهو الصحيح . انتهى . [ ص: 288 ] وقد جزم الغزالي في المستصفى بأنه إذا استقام لم يحتج إلى مناسبة ، ونازعه شارحه العبدري أيضا ، لاعتقاده بأن ، أي به يتقيد الوصف المناسب المختلط بغيره . وقال السبر ليس من مسائل العلة ، وإنما هو خادم للوصف المناسب الإبياري في شرح البرهان : السبر يرجع إلى اختبار في أوصاف المحل وضبطها ، والتقسيم يرجع إلى إبطال ما يظهر إبطاله فيها ، فإذن لا يكون من الأدلة بحال . وإنما تسامح الأصوليون بذلك لأن المراد بالدليل هو الذي دل على أن العلة في جملة الأوصاف ، والدليل الثاني دل على التعيين . وإلا فالسبر والتقسيم ليس هو دليلا قال : ولا بد فيه من ثلاثة أمور :
إحداها : أن يتبين المطلوب في الجملة :
وثانيها : سبر خاص .
وثالثها : إبطال ما عدا المختار . فإن كانت هذه معلومة حصل العلم بالمطلوب وإلا فلا ، بل تحصل غلبة الظن . ثم إن كان الموضع مما يكتفى فيه بغلبة الظن اكتفي به وإلا فلا قال : وهذا لا يتصور فيه خلاف وليس كما قال . وقال ابن المنير في شرحه : زعم بعض المتأخرين أن فهو التقسيم ، وعليه المعول في العقليات ، وإلا فهو السبر ، وليس كما زعم ، بل السبر والتقسيم متغايران متلازمان في الدلالة في العقليات وفي الفقهيات سواء دارت القسمة بين النفي والإثبات أم لا . فالسبر إذن في العقليات : اختبار المقدرات لينظر أيها الحق . والتقسيم أن يقسم الصحة والبطلان بينهما فيعتبر ما هو العلة ، ويلغي ما ليس بعلة . وقد بان لك بهذا أن الدليل ليس نفس السبر والتقسيم ، وإنما الدليل هو الذي أوجب إضافة العلية إلى العلة ، وهو الإجماع على أن أحد الأوصاف علة مع دليل إلغاء سائر الأوصاف إلا المبقى فيتعين ، وتقرير الإجماع على أن أحد [ ص: 289 ] الأوصاف علة الاستقراء من سبر الأولين فإنهم عللوا الأحكام بجملتها ، أو عللوا أكثرها ، والأكثرية ملحقة بالعموم ، وحكموا بأن العلة لا تعدو أوصاف المحل ، فيجب إلحاق كل صورة بالعام أو بالأغلب . وتقرير إبطال ما عدا المبقى يكون بأدلة الإبطال ، كبيان أن الأوصاف طردية ، أو لا مناسبة فيها ، أو يقول : بحثت فلم تظهر لي مناسبة قال : وفي الاكتفاء بالثاني إشكال ، فإن المبقى لم تظهر مناسبته أيضا ، وإلا بطلت فائدة السبر وخصوصيته . وكبيان الإلغاء في الأوصاف لوجود الحكم في غير محل النزاع بالمبقى منفردا عن غيره من الأوصاف ، فيندفع احتمال أن يكون المبقى جزء علة مع بقية الأوصاف . السبر إذا دار بين النفي والإثبات
( قال ) : ومن الأسئلة العاصمة لمسلك السبر والتقسيم أن المبقى لا يخلو في نفس الأمر أن يكون مناسبا ، أو شبها ، أو طردا خاليا ، لأنه إما أن يشتمل على مصلحة أو لا ، فإن اشتمل على مصلحة فإما أن تكون منضبطة للفهم ، أو كلية لا تنضبط .
فالأول : المناسب .
والثاني : الشبه . وإن لم يشتمل على مصلحة أصلا فهو الطرد المردود . فإن كان ثم مناسبة أو شبه لغا السبر والتقسيم . فإن كان عريا عن المناسبة قطعا لم ينفع السبر والتقسيم أيضا . فإن قلت : ينفع في حمل النظر في المناسبة على المجتهد . قلت : لا يحمل ذلك عنه ، لأن المناسبة عندنا أمر وجودي مكشوف ، حتى يقال : إنه ذوقي أو ضروري كالمحسوس ، فالمجتهد إذا يعلمه إذا لم يذق فيه مصلحة منضبطة ولا غيرها أنه لا مناسب ولا شبه فتعين أنه طرد .