الثالث - : في أنه قادح أم لا
وقد اختلفوا فيه : فقيل : هو إفساد العلة مطلقا ، فلا يصح التعليق بها لواحد منهما . ونقل تسليم الصحة مطلقا لأن الجامع دليل ، والخلاف في أنه دليل للمستدل أو عليه ، وهذا ظاهر قول من يسميه ( معارضة ) ، فإن المعارضة لا تفسد العلة ، فلا يمنع من التعلق بها حتى يثبت رجحانها من خارج . وهو قول . وقيل : إنه تسليم للصحة ، على تقدير الصحة . [ ص: 365 ] وظاهر كلام الشيخ أبي إسحاق إمام الحرمين أنه لازم جدلا لا دينا ، ولهذا قال : تلتبس فيه الحظوظ المعنوية بالمراسم الجدلية ، بخلاف المعارضة فإنها مناقضة دينا وجدلا . والمختار عند الجمهور أنه حجة قادحة في العلة . قال : وذكر الشيخ أبو إسحاق من أئمة أصحابنا أنه من ألطف ما يستعمله الناظر . وسمعت الشيخ أبو علي الطبري يقول : إن هذا القلب إنما ذكره المتأخرون من أصحابنا حيث استدل القاضي أبا الطيب الطبري رحمه الله بقوله عليه السلام : { أبو حنيفة } في مسألة الساحة ، قال : في هدم البناء ضرر بالغاصب ، فقال له أصحابنا : وفي منع صاحب الساحة من ساحته ، إضرار . فقال : يجب أن يذكر مثل هذا في القياس . ومن أصحابنا من قال : لا يصح سؤال القلب . قال : وهو شاهد زور ، يشهد لك ويشهد عليك ، لأنه لا يمكن إلا فرض مسألة على المستدل ، وليس للسائل ذلك لأنه انتقال ، وهذا باطل ، لأن القالب عارض المستدل بما لا يمكن الجمع بينه وبين دليله ، فصار كما لو عارضه بدليل آخر . وقيل : هو باطل ، إذ لا يتصور إلا في الأوصاف الطردية . لا ضرر ولا ضرار
وقال : أبو الوليد الباجي ، وإليه ذهب القلب سؤال صحيح يوقف الاستدلال بالعلة ويفسدها وكان القاضي أبو بكر القاضي أبو الطيب الطبري يقولان : هو معارضة وأنه لا يفسد العلة . قال : وشيخنا أبو إسحاق الشيرازي وعندي فيه تفصيل وهو أن القلب ضربان :
أحدهما : قلب بجميع أوصاف العلة . فهذا يفسد العلة المقول بها ، لأنه يجب أن يكون للعلة تعلق بالحكم الذي تعلق عليها واختصاص بحيث لا يصح تعلق الضد بها ، فإذا بين السائل صحة أن يعلق عليها ضده خرجت عن أن تكون علة ، كقولنا في أن الخيار في المبيع يورث ، فإن الموت معنى يزيل التكليف فوجب أن لا يبطل الخيار ، [ ص: 366 ] كالجنون والإغماء . فيقول الحنفي : أقلب هذه العلة فأقول : إن الموت معنى يبطل التكليف فوجب أن لا ينقل الخيار إلى الوارث ، كالجنون والإغماء .
ثانيهما : القلب ببعض الأوصاف : فهذا هو معارضة على ما ذكره شيخنا لأن للمستدل أن يقول : إنما جعلت العلة جميع الأوصاف ، فإذا قلب ببعضها فلم تفسد العلة إنما جئت بأخرى . كقول المالكي في ضم الذهب والفضة في الزكاة : مالان زكاتهما ربع العشر بكل حال ، فيضم أحدهما إلى الآخر في الزكاة ، كالصحاح والمكسرة ، فيقول : أقلب العلة وأقول : مالان زكاتهما ربع العشر بكل حال فلم يضم أحدهما إلى الآخر بالقيمة ، كالصحاح والمكسرة . الشافعي
ونقل في " المنخول " عن المحققين أنه مردود وليس معارضة ، فإن شرطهما التعارض في نفس الحكم والمشهور أنه نوع معارضة ، إذ محال أن يدل على المذهبين من جهة واحدة بل من جهتين ، لاشتراك الأصل والجامع ، فكان أولى بالقبول ، ولأن المعارضة هي أبدا معنى في الأصل أو الفرع ، أو دليل مستقل يقتضي خلاف ما ادعاه المستدل . وهذا الوصف كذلك . فعلى هذا للمستدل أن يمنع حكم القالب في الأصل ، وأن يقدح في العلة بالنقض وعدم التأثير والقول بالموجب إذا أمكنه . وفي جواز قلب قلبه وجهان لأصحابنا ، حكاهما : الشيخ أبو إسحاق
أحدهما : الجواز ، بناء على أنه معارضة ، فإذا قلبه على القالب صار شاهدا له من وجهين ، وللقالب من وجه واحد ، فيترجح عليه .
والثاني : المنع ، ورجحه الباجي ، لأنه نقض ، والنقض لا يصح أن [ ص: 367 ] ينقض ، وكذلك القلب لا يقلب . ورجح في " المحصول " الجواز بشرط أن لا يكون مناقضا للحكم ، لأن قلب القالب إذا فسد بالقلب سلم أصل القياس من القلب . وإن قلنا : إنه ليس بمعارضة بل هو إفساد العلة فليس للمستدل أن يتكلم على قلبه بكل ما للقالب أن يتكلم على دليل المستدل ، لما تقدم في النقض . نعم ، يفترق القلب والمعارضة في صور :
أحدها : أن القلب معارضة مبنية على إجماع الخصمين ، سواء انضم إليهما إجماع الأمة أم لا . والمناقضة في المعارضة حقيقية ، وفي القلب وضعية . أي تواضع الخصمان أو المجمعون على المناقضة .
ثانيها : أن علة المعارضة وأصلها قد يكون مغايرا لعلة المستدل وأصله ، بخلاف القلب فإن علته وأصله هما علتا المستدل وأصله ، ذكره إمام الحرمين وغيره .
ثالثها : أنه لا يحتاج إلى أصل ولا إثبات الوصف . وكل قلب معارضة ، بخلاف العكس .
رابعها : أنه لا يمكن فيه الزيادة في العلة وفي سائر المعارضات يمكن .
خامسها : أنه لا يمنع منه وجود العلة في الأصل والفرع ، لأن أصل القالب وفرعه هو أصل المعلل وفرعه . ويمكن ذلك في بقية المعارضات . ذكر هذين الأخيرين صاحب " المحصول " ، وتبعه الهندي . وقال السهيلي وغيره من الجدليين : القسم الأول من القلب ، وهو الذي يتبين فيه [ ص: 368 ] أن دليل المستدل عليه ، لا له ، هو من قبيل الاعتراضات ، ولا يتجه في قبوله خلاف . وأما الثاني ، وهو ما يدل على المستدل من وجه آخر ، كمثال الاعتكاف ومسح الرأس وبيع الغائب ، فاختلفوا فيه ، هل هو اعتراض أو معارضة ؟ فزعم قوم أنه معارضة ، لأن المعترض يعارض دلالة المستدل بدلالة أخرى . ( قال ) : ولهذا الخلاف فوائد :
منها : أنه إن قيل : إنه معارضة جازت الزيادة عليه ، مثل أن يقول في بيع الغائب : عقد معاوضة مقتضاه التأبيد ، فلا ينعقد على خيار الرؤية ، كالنكاح ، وإن قيل : هو اعتراض لم تجز فيه الزيادة . انتهى . وهذا يخالف ما سبق عن " المحصول " . والفرق بينهما أن المعارضة كدليل مستقل فلا يتعذر بدليل المستدل ، بخلاف الاعتراض فإنه منع للدليل ، فلا تجوز الزيادة ويكون كالكذب على المستدل حيث يقول ما لم يقل .
ومنها : إن قلنا : إنه معارضة جاز قلبه من المستدل كما يعارض العلة ، مثل أن يقول المستدل في بيع الفضولي : لا يصح لأنه تصرف في مال الغير بلا ولاية ولا نيابة ، فلا يصح قياسا على الشراء ، فيقول المستدل : أنا أقلب هذا الدليل وأقول : تصرف في مال الغير بلا ولاية ولا نيابة ، فلا يقع لمن أضافه إليه ، كالشراء ، فإن الشراء يصلح لمن أضيف إليه وهو المشتري له ، بل صح للمشتري وهو الفضولي ، ومن قال : إنه اعتراض لم يجز ذلك ، لأنه منع ، والمنع لا يمنع .
ومنها : أنه إن قلنا : إنه معارضة جاز أن يتأخر عن المعارضة ، لأنه كالجزء منها . وإن كان اعتراضا لم يجز ووجب تقديمه عليها ، لأن المنع مقدم على المعارضة . ومنها : أن من جعله معارضة قبل فيه الترجيح ، ومن قال : إنه اعتراض [ ص: 369 ] منع من ذلك ، لأن المعارضة تقبل الترجيح ، كالدليل المبتدأ ، والمنع لا يقبل الترجيح .