ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا .
[12] وألقي النوم عليهم ، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف ، فأصابه ما أصابهم ، فسمع الملك أنهم بجبل بنجلوس ، فألقى الله في نفسه أن يأمر [ ص: 151 ] بالكهف فيسد عليهم حتى يموتوا جوعا فيه ، وظنهم أيقاظا وهم رقود ، أراد الله تعالى أن يكرمهم ، وأن يجعلهم آية ، وكان القوم يقلبون ذات اليمين وذات الشمال ، ثم عمد رجلان كانا مؤمنين في بيت الملك يكتمان إيمانهما اسم أحدهما يندروس ، والثاني روناس ، فكتبا شأن الفتية وأنسابهم في لوح من رصاص ، وجعلاه في تابوت من نحاس ، وجعلاه في البنيان ، فبقي دقيانوس ما بقي ، ثم مات وقومه وقرون بعده ، وخلفت الملوك بعد الملوك ، ثم ملك تلك البلاد رجل صالح اسمه نيدوسيس ثمانيا وعشرين سنة ، فتحزب الناس في ملكه ، فكانوا أحزابا ، منهم من يؤمن بالله ، ومنهم من يكفر ويكذب بالساعة ، فبكى الملك الصالح ، وتضرع إلى الله حين رأى أهل الباطل يزيدون ويظهرون على أهل الحق ، ثم دخل بيته وأغلق بابه ، ولبس مسوحا وجعل تحته رمادا ، وجعل يتضرع إلى الله تعالى ، ويبكي ويدعو الله أن يظهر لهم آية يبين لهم بطلان ما هم عليه ، حتى أراد الله أن يظهر على الفتية أصحاب الكهف ، ويبين للناس شأنهم ، ويجعلهم آية ؛ ليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن يستجيب لعبده الصالح ، ويجمع كلمة المؤمنين ، فألقى في نفس رجل من ذلك البلد الذي به الكهف أن يهدم بنيان فم الكهف ، فيبني حظيرة لغنمه ، فهدمه ، وحجبه الله بالرعب حتى لا يقدر أن يتقدم حتى ينظر إليهم ، وكلبهم دونهم ، وأذن الله للفتية أن يجلسوا ، فجلسوا مستبشرين ، فسلم بعضهم على بعض ، حتى كأنما استيقظوا من ساعتهم التي كانوا يستيقظون بها إذا أصبحوا من ليلتهم ، قال الله تعالى : ثم بعثناهم أيقظناهم بعد ما أنمناهم . [ ص: 152 ]
وقوله : لنعلم عبارة عن خروج ذلك الشيء إلى الوجود ، وإلا فقد كان الله تعالى علم أي الحزبين الفريقين أحصى أحفظ لما لبثوا أمدا المعنى : أيهم أضبط غاية لأوقات لبثهم .
قال : والظاهر من الآية أن الحزب الواحد هم الفتية ، إذ ظنوا لبثهم قليلا ، والحزب الثاني هم أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم ، حين كان عهدهم التاريخ بأمر الفتية ، قال : وهذا قول الجمهور من المفسرين . ابن عطية
وقيل : المراد بالحزبين : المختلفين في مدة لبثهم ، وذلك حين تنازع المسلمون الأولون أصحاب الملك نيدوسيس ، والمسلمون الآخرون الذين أسلموا حين رأوا أصحاب الكهف في قدر مدة لبثهم في الكهف ، فقال المسلمون الأولون : مكثوا ثلاث مئة سنة وتسع سنين ، وقال المسلمون الآخرون : بل مكثوا كذا وكذا ، وقال آخرون : الله أعلم بما لبثوا .
فلما استيقظ الفتية من نومهم ، قاموا إلى الصلاة ، فصلوا كالذي كانوا يفعلون ، لا يرون في وجوههم ولا في أبدانهم شيئا ينكرونه ، وهم يرون أن ملكهم دقيانوس في طلبهم ، فلما قضوا صلاتهم ، قالوا لصاحب نفقتهم : أنبئنا ما الذي قال الناس في شأننا عشي أمس عند هذا الجبار ؟ وهم يظنون أنهم رقدوا كبعض ما كانوا يرقدون ، وقد يخيل إليهم أنهم قد ناموا أطول مما كانوا ينامون حتى تساءلوا بينهم ، فقال بعضهم لبعض : كم لبثتم نياما ؟ قالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم ، ثم قالوا : ربكم أعلم بما لبثتم ، وكل ذلك [ ص: 153 ] في أنفسهم يسير ، فقال لهم صاحب نفقتهم : إن الملك أراد قتلكم ، أو تذبحوا للطواغيت ، فقال كبيرهم : يا إخوتاه! اعلموا أنكم ملاقو الله ، فلا تكفروا بعد إيمانكم إذا دعاكم عدو الله ، ثم قالوا لصاحب نفقتهم : انطلق إلى المدينة فتسمع ما يقال بها ، وما الذي نذكر به عند دقيانوس ، وتلطف ، ولا تشعرن بك أحدا ، وابتع لنا طعاما فأتنا به ، وزدنا على الطعام الذي جئتنا به ، فقد أصبحنا جياعا ، ففعل كما كان يفعل ، ووضع ثيابه وأخذ الثياب التي كان يتنكر فيها ، وأخذ ورقا من نفقتهم التي كانت معهم التي ضربت بطابع دقيانوس ، وانطلق خارجا ، فلما مر بباب الكهف ، رأى الحجارة منزوعة عن بابه ، فعجب منها ، ثم مر ولم يبال بها حتى أتى باب المدينة ، فنظر في أعلى الباب علامة أهل الإيمان ، فاستخفى وتحول إلى باب آخر ، فرأى مثل ذلك ، حتى خيل إليه أن المدينة ليست بالذي كان يعرف ، ورأى ناسا يحلفون باسم عيسى ، ولم يميز منهم أحدا ، فازداد حيرة ، وظن أنه نائم ، فسأل عن اسم المدينة ، فقيل له : أقسوس ، فقال : لعل عقلي ذهب ، فدفع الورق إلى البياع ليشتري طعاما ، فعجب البياع من الورق ، وطرحها إلى رجل من أصحابه ، فجعلوا ينظرون إليها ، ويقول بعضهم لبعض : إن هذا رجل قد أصاب كنزا ، وجعل أهل المدينة يقولون : ما رأينا هذا الفتى قط ، فحملوه إلى رجلين كانا رأسي المدينة ومدبري أمرها ، وهما صالحان ، اسم أحدهما أزيوس ، والآخر أضطيوس ، فنظرا إلى الورق ، فعجبا منه ، فقال أحدهما : أين الكنز يا فتى ؟ فقال : ما وجدت [ ص: 154 ] كنزا ، وهذا الورق ورق آبائي ، ونقش هذه المدينة وضربها ، ولكن والله ما أدري ما شأني ، وإني رجل من أهل المدينة ، أنا فلان بن فلان ، فلم يعرفه أحد ، ولا عرف أباه ، قالوا : فنقش هذا الورق من ثلاث مئة سنة ، وأنت غلام شاب ؟! فقال : ما فعل الملك دقيانوس ؟ قالوا : ما نعرف على وجه الأرض اليوم هذا الاسم إلا ملك قد هلك ، وهلك بعده قرون ، قال لهم : فما يصدقني أحد ، لقد كنا فتية ، وكان الملك أكرهنا على عبادة الأوثان ، فهربنا منذ أيام إلى الكهف ، وخرجت لأشتري لأصحابي طعاما ، وأتجسس الأخبار ، فانطلقوا معي إلى الكهف في جبل بنجلوس ؛ لأريكم أصحابي ، فلما سمع أريوس ما يقول ، قال : يا قوم! لعل هذه آية من آيات الله جعلها لكم على يدي هذا الفتى ، فانطلقوا بنا معه يرينا أصحابه ، فانطلق معه أريوس وأطيطوس ، وانطلق معهم أهل المدينة كبيرهم وصغيرهم ، فلما سمع أصحاب الكهف الأصوات وجلبة الخيل مصعدة نحوهم ، جزعوا وظنوا أنهم رسل الجبار دقيانوس بعث إليهم ليؤتى بهم ، فسبق إليهم صاحبهم ، وقص عليهم النبأ كله ، فعرفوا عند ذلك أنهم كانوا نياما بإذن الله ، وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس ، وتصديقا للبعث ، ثم فتحوا التابوت النحاس الموضوع بباب الكهف ، فوجدوا فيه لوحين من رصاص مكتوب فيهما أسماؤهم ، وأنهم كانوا فتية آمنوا وهربوا من ملكهم دقيانوس الجبار ؛ مخافة أن يفتنهم عن دينهم ، فدخلوا هذا الكهف ، فلما أخبر بمكانهم ، أمر بسد الكهف عليهم ، فكتبنا شأنهم وخبرهم ليعلمه من بعدهم إن عثر عليهم ، فلما قرؤوه ، عجبوا ، وحمدوا الله الذي أراهم آية للبعث فيهم ، ثم رفعوا أصواتهم بحمد الله وتسبيحه ، ثم دخلوا على الفتية الكهف ، فوجدوهم جلوسا مشرقة وجوههم لم تبل ثيابهم ، وجاء الملك [ ص: 155 ] الصالح نيدوسيس حتى وقف عليهم ، واعتنقهم ، وبكى ، فدعوا له ، فبينما الملك قائم إذ رجعوا إلى مضاجعهم ، فناموا ، فتوفى الله أنفسهم ، فأمر الملك أن يجعلوا في توابيت الذهب ، ثم رآهم في المنام ، فقالوا له : إنا لم نخلق من ذهب ولا فضة ، وإنما خلقنا من تراب ، وإلى التراب نصير ، فأمر الملك بتابوت من ساج ، فجعلوا فيه ، وحجبهم الله حين خرجوا من عندهم بالرعب ، فلم يقدر أحد على الدخول إليهم ، فأمر الملك ، فجعل على باب الكهف مسجد يصلى فيه ، وجعل لهم عيدا عظيما ، وأمر أن يؤتى كل سنة . وقد حكى المفسرون والمؤرخون قصة أهل الكهف على وجوه كثيرة بألفاظ مختلفة ، والله أعلم .
* * *