الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فمن ارتفعت رتبته إلى هذه الدرجة لم يفتقر إلى تنويع الأوراد واختلافها ، بل كان ورده بعد المكتوبات واحدا ، وهو حضور القلب مع الله تعالى في كل حال فلا يخطر بقلوبهم أمر ولا يقرع سمعهم قارع ، ولا يلوح لأبصارهم لائح إلا كان لهم فيه عبرة وفكر ومزيد فلا محرك لهم ، ولا مسكن إلا الله تعالى فهؤلاء جميع أحوالهم تصلح أن تكون سببا لزيادهم فلا تتميز عندهم عبادة عن عبادة وهم الذين فروا إلى الله عز وجل ، كما قال تعالى : لعلكم تذكرون ففروا إلى الله وتحقق فيهم قوله تعالى وإذ : اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته وإليه الإشارة بقوله : إني ذاهب إلى ربي سيهدين وهذه منتهى درجات الصديقين ولا وصول إليها إلا بعد ترتيب الأوراد والمواظبة عليها دهرا طويلا فلا ينبغي أن يغتر المريد بما سمعه من ذلك ، فيدعيه لنفسه ، ويفتر عن وظائف عبادته فذلك علامته أن لا يهجس في قلبه وسواس ولا يخطر في قلبه معصية ولا ترعجه هواجم الأهوال ولا تستفزه عظائم الأشغال وأنى ترزق هذه الرتبة لكل أحد فيتعين على الكافة ترتيب الأوراد كما ذكرناه وجميع ما ذكرناه ، طرق إلى الله تعالى قال تعالى : قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا فكلهم مهتدون وبعضهم أهدى من بعض وفي الخبر : الإيمان ثلاث وثلاثون وثلاثمائة طريقة ، من لقي الله تعالى بالشهادة على طريق منها دخل الجنة وقال بعض العلماء : الإيمان ثلاثمائة وثلاثة عشر خلقا بعدد الرسل فكل ، مؤمن على خلق منها ، فهو سألك الطريق إلى الله .

التالي السابق


(فمن ارتفعت رتبته) من حضيض المجاز (إلى) ارتفاع حقيقة (هذه الدرجة) واستكمل معراجه فرأى بالمشاهدة العيانية أن ليس في الوجود إلا الله، وأن كل شيء هالك إلا وجهه، كما هو مقتضى كلام الموحد المستغرق (لم يفتقر إلى تنويع الأوراد) وترتيبها (واختلافها، بل كان ورده بعد المكتوبات وردا واحدا، وهو حضور القلب مع الله عز وجل في كل حال) وذلك بالتوجه والمراقبة وبه يحصل دوام الجمعية ودوام قبول القلب، وهو المعنى الذي يسمى جمعا وقبولا، ولما كان الحضور متوقفا على المراقبة، وهي مفاعلة، فلا بد من التراقب من الجانبين، فعلى هذا لابد للمراقب أن يكون مراقبا لاطلاعه على اطلاع الحق سبحانه على أحواله، أو مراقبا لاطلاعه على موجده، فلا فتور أو يكون مراقبا لقلبه (ولا يخطر بقلبه أمر) يشتت خاطره (ولا يقرع سمعه قارع، ولا يلوح لبصره لائح) ، فحينئذ يتيسر له الربط بقلبه الحقيقي من غير ملاحظة معنى المفاعلة، وإذا فرض خطور أمر بقلبه لكن لا بطريق الحلول فيه، أو قرع قارع، أو تلوح لائح، لكن لا يكون (إلا كان له عبرة وفكرة) في [ ص: 176 ] كل من ذلك (ومزيد) حال وأنوار كما هو شأن الكمل، (فلا) بأس بذلك إذ من مقامه عرفان أن لا (محرك له إلا الله، ولا مسكن إلا الله) ، وهذا أقرب إلى الخدمة الإلهية، وبه يتوصل إلى الوزارة العظمى، والإشراق على الخواطر، وتنوير الغير، والنظر إليه بعين الموهبة، (فهذا جميع أحواله تصلح أن يكون سببا لازدياده) بتقوية البصيرة وإذهاب الصورة وظهور المعنى المقصود، (فلا يتميز عنده عبادة عن عبادة) ولا حال عن حال، (وهو الذي فر) عن نفسه (إلى الله تعالى، كما قال عز وجل: لعلكم تذكرون ففروا إلى الله ) إنني لكم منه نذير مبين، (وتحقق فيه قوله تعالى: وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ) والإشارة في قوله: إلا الله فهؤلاء نفوا عن قلوبهم عبادة غيره تعالى، فلم يحل فيها خاطر للسوي قط (وإليه الإشارة بقوله: إني ذاهب إلى ربي سيهدين ) فالذهاب إلى الله هو الغنى في الله بحيث لا يبقى له خبر عما سوى الله، (وهذه) الرتبة (منتهى درجات الصديقين) أهل المشاهدة العيانية (ولا وصول إليها إلا بعد ترتيب الأوراد والمواظبة عليها دهرا طويلا) ، فيظهر بذلك أثر من آثار الجذبات الإلهية، والأثر متفاوت بتفاوت الاستعدادات، فبعضهم أول ما يحصل له الغيبة عما سوى الله تعالى، وبعضهم أول ما يحصل له الشكر والغيبة، وبعد ذلك يتحقق له مقام الفناء، كما قال بعض العارفين في تفسير قوله تعالى: واذكر ربك إذا نسيت أي: إذا نسيت غيره، ثم نسيت نفسك، ثم نسيت ذكره في ذكرك، ثم نسيت في ذكر الحق إياك كل ذكرك، (فلا ينبغي أن يغتر المريد بما سمعه من ذلك، فيدعيه لنفسه، ويفتر عن وظائف عبادته) وإن لاح له في ذلك ما يؤيد دعواه، فليعلم أنه اغترار (فذلك علامته أن لا يهمس في قلبه وسواس) لكونه محفوظا منه، (ولا يخطر في قلبه معصية) إذ خطورها من وساوس الشيطان (ولا تزعجه هواجم الأهوال) هي الشدائد التي تهجم مرة واحدة لا يستطيع الإنسان حملها، ولا تستفزه أي: لا تحركه (عظائم الأشغال) أي: الأشغال العظيمة المهمة التي من شأنها الانزعاج لها (وأنى يرزق هذه الرتبة أي أحد) هيهات هيهات. .


كيف الوصول إلى سعاد ودونها قلل الجبال ودونهن حتوف

(فيتعين على الكافة ترتيب الأوراد) وعمارة الأوقات بالأذكار (كما ذكرناه، وجميع ما ذكرناه طرق) للوصول (إلى الله تعالى) والقرب والبعد بحسب همة السالك فيها (قال الله تعالى: قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا ) (فكلهم مهتدون) بهداية الله تعالى (وبعضهم أهدى) من بعض، (وفي الخبر: الإيمان ثلاث وثلاثون وثلاثمائة طريقة، من لقي الله عز وجل بالشهادة على طريق منها دخل الجنة) . قال العراقي: رواه ابن شاهين واللالكائي في السنة، والطبراني والبيهقي في الشعب، من رواية المغيرة بن عبد الرحمن بن عبيد، عن أبيه، عن جده: " الإيمان ثلاثمائة وثلاث وثلاثون شريعة، فمن وافى شريعة منها أدخل الجنة". وقال الطبراني: " ثلاثمائة وثلاثون"، وفي إسناده جهالة. اهـ .

قلت: وهذا نص اللالكائي في كتاب السنة، أخبرنا أحمد بن عبيد، أخبرنا علي بن عبد الله بن بشير، حدثنا عمرو بن علي، حدثنا المنهال بن بحر أبو سلمة، حدثنا حماد بن سلمة، عن أبي سنان، عن المغيرة بن عبد الرحمن بن عبيد، قال: حدثني أبي، عن جدي عبيد، وكانت له صحبة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " الإيمان ثلاثمائة وثلاث وثلاثون شريعة، من وافى الله بشريعة دخل الجنة". اهـ. .

قلت: وقد رواه أيضا ابن السكن وأبو نعيم من هذا الطريق، وعبيد له صحبة، وحديثه عند ولده، قاله ابن السكن، وقال ابن حبان في ترجمة حفيده المغيرة بن عبد الرحمن في الثقات: روى عن أبيه عن جده، وكانت له صحبة فيما يزعمون، وعداده في أهل الشام..

وقال ابن عبد البر: روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الإيمان حديثه عند حماد بن سلمة يشير إلى هذا الحديث .

(وقال بعض العلماء: الإيمان ثلاثمائة وثلاثة عشر خلقا بعدد الرسل، كل مؤمن هو على خلق منها، فهو سالك للطريق إلى الله تعالى) .

قلت: وقد روي هذا مرفوعا بمعناه، وجدت بخط ابن الحريري عن خط الشيخ زين الدين القرشي الواعظ ما نصه: قال أبو داود الطيالسي: حدثنا عبد الواحد بن زيد، حدثنا عبد الله بن راشد مولى [ ص: 177 ] عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " إن لله عز وجل مائة خلق وسبع عشرة خلقا، من أتى الله بخلق واحد منها دخل الجنة". قلت: رواه من هذا الطريق بهذا الإسناد الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وأبو يعلى، والبيهقي، وفي رواية لهم: " ستة عشر خلقا"، وفي أخرى: " بضعة عشر خلقا"، وفي أخرى: " شريعة" بدل " خلقا " .

ثم قال البيهقي: وهكذا رواه عبد الواحد بن زيد البصري الزاهد، وليس بقوي في الحديث، وقد خولف في إسناده ومتنه .

وقال في اللسان: قال ابن عبد البر: عبد الواحد بن زيد أجمعوا على تركه .

وقال ابن حبان: يقلب الأخبار من سوء حفظه وكثرة وهمه، فاستحق الترك، وعبد الله بن راشد ضعفوه، وبه أعل الهيثمي الخبر .

قال المناوي: لكنه عصب الجناية برأسه وحده، فلم يصب .

وقال الحكيم الترمذي بعد أن ساقه بسنده: كأنه يريد أن من أتاه بخلق واحد منها وهب له جميع سيئاته، وغفر له سائر ذنوبه .

وفي خبر: "إن الأخلاق في الخزائن، فإذا أراد الله بعبد خيرا منحه خلقا منها. اهـ .

وروى الطبراني في الأوسط، عن أنس مرفوعا: إن لله عز وجل لوحا من زبرجدة خضراء تحت العرش، كتب فيه: أنا الله لا إله إلا أنا، أرحم الراحمين، خلقت بضعة عشر وثلاثمائة خلق، من جاء بخلق منها وشهادة أن لا إله إلا الله دخل الجنة". وإسناده حسن .



وقال المصنف في خاتمة المقصد الأسنى ما نصه: " واعلم أنه إنما حملني على ذكر هذه التنبيهات ردف هذه الأسامي والصفات قوله -صلى الله عليه وسلم-: " تخلقوا بأخلاق الله عز وجل". وقوله -صلى الله عليه وسلم-: " إن لله تسعة وتسعين خلقا، من تخلق بواحد منها دخل الجنة". وما تداولته ألسنة الصوفية من كلمات تشير إلى ما ذكرناه، ولكن على وجه توهم عند غير المحصل شيئا في معنى الحلول والاتحاد، وذلك غير مظنون بعاقل فضلا عن المتميزين بخصائص المكاشفات، ولقد سمعت الشيخ أبا علي الفارمدي يحكي عن شيخه أبي القاسم الكرماني -قدس الله روحهما- أنه قال: إن الأسماء التسعة والتسعين تصير أوصافا للعبد السالك، وهو بعد في السلوك غير واصل، وهذا الذي ذكرناه إن أراد به شيئا يناسب ما أوردناه في التنبيهات، فهو صحيح، ولا يظن به إلا ذلك، ويكون في اللفظ نوع توسع واستعارة، وإلا فمعاني الأسماء هي صفات الله تعالى، وصفاته لا تصير صفة لغيره، ولكن من يحصل ما يناسب تلك الأوصاف كما يقال: فلان حصل علم الأستاذ وعلم الأستاذ لا يحصل للتلميذ بل يحصل له مثل علمه. وإن ظن ظان أن المراد به ليس ما ذكرناه. فهو باطل قطعا، فإني أقول: قول القائل إن أسماء الله تعالى صارت أوصافا له لا يخلو إما أن عنى به عين تلك الصفات أو مثلها. فإن عنى به مثلها من حيث الاسم والمشاركة في عموم الصفات دون خواص المعاني. فهذان قسمان، وإن عنى به عينها فلا يخلو إما أن يكون بطريق الانتقال لصفات الرب إلى العبد أو لا بالانتقال، فإن لم يكن بالانتقال فلا يخلو إما أن يكون باتحاد ذات العبد بذات الرب حتى يكون هو هو، فتكون صفاته صفاته، وإما أن يكون بطريق الحلول وهذه أقسام ثلاثة: وهو الانتقال، والاتحاد، والحلول، وقسمان متقدمان، فهذه خمسة أقسام، الصحيح منها قسم واحد، وهو أن يثبت للعبد من هذه الصفات أمور تناسبها على الجملة وتشاركها في الاسم، ولكن لا تماثلها مماثلة تامة .

ثم أطال الكلام في القسم الثاني والثالث والرابع والخامس بما ليس هو من غرض هذا المقام، ثم قال: فإن قلت: فما معنى قوله: إن العبد مع الاتصاف بجميع ذلك سالك لا واصل ؟ فما معنى السلوك ؟ وما معنى الوصول على رأيه ؟ فاعلم أن السلوك هو تهذيب الأخلاق والأعمال والمعارف، وذلك اشتغال بعمارة الظاهر والباطن، والعبد في جميع ذلك مشتغل بنفسه عن ربه، لأنه مشتغل بتصفية باطنه ليستعد للوصول، وإنما الوصول: أن تنكشف له جلية الحق ويصير مستغرقا به، فإن نظر إلى معرفته فلا يعرف إلا الله، وإن نظر إلى همته فلا همة له سواه، فيكون كله مشغولا بكله مشاهدة وهما لا يلتفت في ذلك إلى نفسه لغير ظاهره بالعبادة، وباطنه بتهذيب الأخلاق، وكل ذلك طهارة وهي البداية، وإنما النهاية أن ينسلخ من نفسه بالكلية ويتجرد له فيكون كأنه هو، وذلك هو الوصول عنده، والله أعلم .




الخدمات العلمية