فإن كان التفاوت من جهة الشهوة لم يرجع إلى تفاوت العقل ، وإن كان من جهة العلم فقد سمينا هذا الضرب من العلم عقلا أيضا فإنه يقوي غريزة العقل فيكون التفاوت فيما رجعت التسمية إليه ، وقد يكون بمجرد التفاوت في غريزة العقل ، فإنها إذا قويت كان قمعها للشهوة لا محالة أشد .
وأما القسم الثالث وهو علوم التجارب فتفاوت الناس فيها لا ينكر فإنهم يتفاوتون بكثرة الإصابة وسرعة الإدراك ويكون سببه إما تفاوتا في الغريزة وإما تفاوتا في الممارسة فأما الأول وهو الأصل أعني الغريزة فالتفاوت فيه لا سبيل إلى جحده فإنه مثل نور يشرق على النفس ويطلع صبحه ومبادئ إشراقه عند سن التمييز ثم لا يزال ينمو ويزداد نموا خفي التدريج ، إلى أن يتكامل بقرب الأربعين سنة ومثاله نور الصبح فإن أوائله تخفى خفاء يشق إدراكه ثم يتدرج إلى الزيادة إلى أن يكمل بطلوع قرص الشمس .
وتفاوت نور البصيرة كتفاوت نور البصر والفرق مدرك بين الأعمش وبين حاد البصر بل سنة الله عز وجل جارية في جميع خلقه بالتدريج في الإيجاد حتى إن غريزة الشهوة لا تظهر في الصبي عند البلوغ دفعة وبغتة بل تظهر شيئا فشيئا على التدريج وكذلك جميع القوى والصفات ومن أنكر تفاوت الناس في هذه الغريزة فكأنه منخلع عن ربقة العقل ومن ظن أن عقل النبي صلى الله عليه وسلم مثل عقل آحاد السوادية وأجلاف البوادي فهو أخس في نفسه من آحاد السوادية ولما انقسموا إلى بليد لا يفهم بالتفهيم إلا بعد تعب طويل من المعلم وإلى ذكي يفهم بأدنى رمز وإشارة وإلى كامل تنبعث من نفسه حقائق الأمور بدون التعليم كما قال تعالى وكيف ينكر تفاوت الغريزة ولولاه لما اختلف الناس في فهم العلوم يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور ، وذلك مثل الأنبياء عليهم السلام إذ يتضح لهم في بواطنهم أمور غامضة من غير تعلم وسماع ويعبر عن ذلك بالإلهام وعن مثله عبر النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث قال : إن روح القدس نفث في روعي أحبب من أحببت فإنك مفارقه وهذا النمط من تعريف الملائكة للأنبياء يخالف الوحي الصريح الذي هو سماع الصوت بحاسة الأذن ومشاهدة الملك بحاسة البصر ، ولذلك أخبر عن هذا بالنفث في الروع
وعش ما شئت فإنك ميت ، واعمل ما شئت فإنك مجزي به