الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقال صلى الله عليه وسلم : " خير دينكم أيسره ، وخير العبادة الفقه " وقال صلى الله عليه وسلم : " فضل المؤمن العالم على المؤمن العابد بسبعين درجة " وقال صلى الله عليه وسلم : " إنكم أصبحتم في زمن كثير فقهاؤه ، قليل قراؤه وخطباؤه ، قليل سائلوه ، كثير معطوه ، العمل فيه خير من العلم ، وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير خطباؤه ، قليل معطوه كثير سائلوه ، العلم فيه خير من العمل "

التالي السابق


الثالث والعشرون: (وقال عليه السلام: "خير دينكم أيسره، وأفضل العبادة الفقه") .

أخرجه ابن عبد البر من حديث أنس بسند ضعيف، والشطر الأول عند أحمد من حديث محجن بن الأدرع بإسناد جيد، والشطر الثاني عند الطبراني من حديث ابن عمر بسند ضعيف، قاله العراقي.

قلت: أما حديث محجن فقد أخرجه أبو داود والطيالسي في مسنده فقال: حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن رجاء، عن محجن قال: "أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيدي حتى انتهينا إلى سدة المسجد، فإذا رجل يركع ويسجد ويركع ويسجد، فقال لي: من هذا؟ فقلت: هذا فلان، وجعلت أطريه، وأقول له: هذا هذا، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا تسمعه فتهلكه، ثم انطلق بي حتى بلغ باب حجرة إحدى نسائه، ثم أرسل يده من بين يدي، قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: خير دينكم أيسره" قالها ثلاثا.

وأخرجه مسدد في مسنده فقال: حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا يونس، عن زياد بن مخراق، عن رجل من أسلم قال: "كان منا ثلاثة صحبوا النبي -صلى الله عليه وسلم- بريدة ومحجن ومسكبة، فقال محجن لبريدة: ألا تصلي كما يصلي مسكبة؟ قال: لا، لقد رأيتني أقبلت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أحد نتماشى يدي في يده، فرأى رجلا يصلي فقال: أتراه جادا أتراه صادقا؟ فذهبت أثني عليه، قال: فلما دنونا نزع يده من يدي، وقال: ويحك! اسكت، لا تسمعه فتهلكه، إن خير دينكم أيسره".

وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده، فقال: حدثنا شبابة بن سوار، حدثنا شعبة، عن جعفر بن إياس، عن عبد الله بن شقيق، عن رجاء بن أبي رجاء قال: "دخل بريدة المسجد ومحجن على باب المسجد، فقال بريدة -وكان فيه مزاح-: يا محجن، ألا تصلي كما يصلي مسكبة؟ فقال: نزل النبي -صلى الله عليه وسلم- من أحد وهو آخذ بيدي فدخل المسجد، فإذا رجل يصلي، فقال لي: من هذا؟ فأثنيت عليه خيرا، فقال: اسكت؛ لا تسمعه فتهلكه، ثم أتى على باب حجرة امرأة من نسائه، فقبض يده من يدي، ثم قال: إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره" مرتين.

وقد علم مما سقناه أن الحديث يروى من طريق بريدة أيضا، وقد أخرجه أيضا من طريق محجن البخاري في الأدب، والطبراني في الكبير، ويروى من طريق عمران بن الحصين، أخرجه الطبراني في الكبير، وقال: تفرد به إسماعيل بن يزيد، ومن طريق أنس بن مالك، أخرجه الطبراني في الأوسط، وابن عدي في الكامل، والضياء المقدسي في المختارة، فاقتصار العراقي على محجن، ومن مخرجيه على أحمد قصور ظاهر .

وقول العراقي: بإسناد جيد، صحيح؛ فإن رجاله من الطرق التي سقناها ثقات، ليس فيهم متهم أو متروك، غير أن في سياق سند مسدد رجلا من أسلم لم يسم .

ومن شواهده ما أخرجه أحمد بن منيع في مسنده من طريق غاضرة بن عروة الفقيمي، عن أبيه، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يا أيها الناس، إن دين الله في يسر، يا أيها الناس إن دين الله في يسر" وقد رواه أحمد أيضا من هذا [ ص: 83 ] الطريق، وغاضرة بن عروة، ويقال: ابن عمر الفقيمي، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن المديني: مجهول .

وأخرج أبو بكر بن أبي شيبة من طريق داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: "سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي الأديان أحب عند الله؟ قال: الحنيفية السمحة" وقد أخرجه أحمد بن حنبل، وعبد بن حميد في مسنديهما بهذا الطريق، والسند فيه مقال .

وقول العراقي: أخرجه ابن عبد البر عن أنس فقد وافقه على إخراجه ذلك أبو الشيخ في الثواب، والديلمي في الفردوس، كلهم من رواية عبد الرحيم بن مطرف، حدثنا أبو عبد الله العذري، عن يونس، عن الزهري، عن أنس، ولفظهم: "وخير" بدل "وأفضل" وأبو عبد الله العذري لا يدرى من هو .

وأما الشطر الثاني فقد أخرجه الطبراني في الصغير بزيادة: "وأفضل الدين الورع" وله شاهد جيد من حديث سعد بن أبي وقاص، أخرجه الحاكم في التاريخ، من حديث حذيفة، أخرجه الطبراني في الأوسط "فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة، وخير دينكم الورع" وقد تقدم هذا والكلام عليه .

وأخرج الطبراني في الكبير والصغير من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن عوف، رفعه "يسير الفقه خير من كثير العبادة، وأفضل أعمالكم الفقه" وفي إسناده خارجة بن مصعب، وهو ضعيف جدا .

الرابع والعشرون: (وقال عليه السلام: "فضل المؤمن العالم على المؤمن العابد سبعون درجة") قال العراقي: أخرجه ابن عدي من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف، ولأبي يعلى نحوه من حديث عبد الرحمن بن عوف. اهـ .

قلت: وأخرجه ابن عبد البر من حديث ابن عباس بسند ضعيف، أخرجه من رواية يحيى بن بكير، حدثنا يحيى بن صالح الأيلي، عن إسماعيل بن أمية، عن عبد بن عمير، عن ابن عباس رفعه بلفظ المصنف، وزيادة لفظ المؤمن إشارة إلى أن الكلام في عالم كامل الإيمان عامل بعلمه، وفي عابد كامل الإيمان عارف بالفروض العينية، وإلا فهو غير عابد .

وقول العراقي: أخرجه ابن عدي، قد أشار إليه السخاوي في المقاصد، وأغفله الجلال.

أخرجه في الكامل، ثم البيهقي من طريقه، وابن السني، وأبو نعيم في كتابيهما رياضة المتعلمين، كلهم من رواية عمرو بن الحصين، حدثنا ابن علاثة، حدثنا خصيف، عن مجاهد، عن أبي هريرة، وفي آخره: "الله أعلم ما بين كل درجتين" .

وأما قوله: ولأبي يعلى نحوه، أي: في المعنى فقط دون اللفظ، كما هو مقتضى قولهم: نحوه، وحديثه هذا، أي الذي أخرجه أبو يعلى في مسنده، قال: حدثنا موسى بن محمد بن حبان، حدثني محمد بن عمرو بن عبد الله، سمعت الخليل بن مرة يحدث عن ميسرة، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فضل العالم على العابد سبعون درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض" قال الهيثمي في سياق حديث أبي يعلى: الخليل بن مرة قال البخاري: منكر الحديث، وقال ابن عدي: هو ممن يكتب حديثه، وليس بمتروك .

قلت: ومن رجال الترمذي، روى عنه الليث بن سعد، جاء تضعيفه عن ابن معين.

وفي الكاشف: الخليل بن مرة الضبعي نزيل الرقة عن أبي صالح وعكرمة، وعنه ابن وهب ووكيع، قال أبو حاتم: ليس بقوي، كان أحد الصالحين، توفي سنة 1116 .

وأخرج أبو القاسم الأصبهاني في كتاب الترغيب والترهيب من رواية خارجة بن مصعب، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن أظنه ابن رافع، عن عبد الله بن عمرو قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكره، وفي آخره زيادة: "بين كل درجتين حضر الفرس سبعون عاما" وسيأتي ذكره قريبا .

الخامس والعشرون: (وقال عليه السلام: "إنكم أصبحتم في زمان كثير فقهاؤه، قليل خطباؤه، قليل سائلوه، كثير معطوه، العمل فيه خير من العلم، وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير خطباؤه، قليل معطوه كثير سائلوه، والعلم فيه خير من العمل") .

قال العراقي: أخرجه الطبراني من حديث حرام بن حكيم، عن عمه، وقيل: عن أبيه، وإسناده ضعيف. اهـ .

قلت: ورواه كذلك ابن عبد البر في كتاب العلم، وأبو نعيم في كتاب رياضة المتعلمين، كلهم من رواية صدقة بن عبد الله، عن زيد بن واقد، عن حرام بن حكيم، عن عمه، عن [ ص: 84 ] رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكره ابن عبد البر بلفظ المصنف .

وفي رواية الآخرين تقديم وتأخير، وصدقة بن عبد الله السمين ضعيف، وحرام بفتح الحاء والراء مختلف فيه، وعمه عبد الله بن سعد، هكذا ورد مسمى منسوبا في رواية أبي نعيم.

وفي كتاب العلم لابن خيثمة: حدثنا جرير، عن عبد الله بن يزيد، عن سميل بن زياد، عن عبد الله بن مسعود قال: "إنكم في زمان كثير علماؤه قليل خطباؤه، وإن بعدكم زمان كثير خطباؤه، العلماء فيه قليل" قال القارئ في شرح عين العلم: المعنى إظهار العمل خير من إظهار العلم؛ لتقتدي الناس، فلا ينافيه ما سبق من الأحاديث الدالة على أفضلية العلم مطلقا. اهـ .

وفي مسند الإمام أحمد من رواية حجاج بن الأسود، سمعت أبا الصديق يحدث ثابتا عن رجل، عن أبي ذر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنكم في زمان علماؤه كثير وخطباؤه قليل، من ترك فيه عشر ما يعلم هوى، أو قال هلك، وسيأتي على الناس زمان يقل علماؤه ويكثر خطباؤه، من تمسك فيه بعشر ما يعلم نجا".

وللحديث المذكور شواهد:

منها: عند الترمذي من حديث أبي هريرة: "إنكم في زمان من ترك فيه عشر ما أمر به هلك، ثم يأتي زمان من عمل منهم عشر ما أمر به نجا".

وعند الطبراني في الأوسط والحاكم في التاريخ عن أبي هريرة أيضا: سيأتي زمان تكثر فيه القراءة، وتقل الفقهاء، ويقبض العلم، ويكثر الهرج، ثم يأتي بعد ذلك زمان يقرأ القرآن رجال من أمتي لا يجاوز تراقيهم، ثم يأتي بعد ذلك زمان يجادل المشرك بالله المؤمن في مثل ما يقول".

وأخرج أبو القاسم اللالكائي في سننه من طريق علقمة، عن عبد الله قال: "كيف أنتم إذا لبستم فتنة يربو فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، إذا ترك فيها شيء قيل: ترك السنة؟! قيل: متى ذلك يا أبا عبد الرحمن، قال: ذلك إذا ذهب علماؤكم، وكثرت جهالكم، وكثرت قراؤكم، وقلت فقهاؤكم".




الخدمات العلمية