ومما يبين ذلك أن ما ذكره من الطريقين البعيدين أقربهما مبني على أن دلالة الصنعة على الصانع، كدلالة الصانع على الصنعة، وهذا إنما يدل من جهة الاشتقاق اللفظي كما تقدم. [ ص: 92 ] القاضي أبو بكر
ومن المعلوم أن من شاهد الحوادث قبل أن يعلم أن لها صانعا، لا يعلم أنها صنعة ولا مفعولة لفاعل، حتى يتضمن علمه بأحدهما علمه بالآخر، فإن لم يعلم أن الحادث لا بد له من محدث، لم يعلم أنها مفعولة ولا مصنوعة، فضلا عن أن يعلم أن لها صانعا فاعلا وإذا علم أنها مصنوعة مفعولة، امتنع مع ذلك أن لا يعلم أن لها صانعا فاعلا.
يوضح ذلك أن علم الناس بأن الصنعة مفتقرة إلى الصانع، ليس بدون علمهم بأن الصانع لا بد له من صنعة، بل علمهم بالأول قد يكون أقوى من الثاني، وذلك لأنه أراد بكلامه أن الصانع لا يكون صانعا إلا بصنعة، والفاعل لا يكون فاعلا إلا بفعل، وهذا صحيح. ولكن ليس هذا بأبين من كون المصنوع لا يكون مصنوعا إلا بصانع، والمفعول لا يكون مفعولا إلا بفاعل، والفعل لا يكون فعلا إلا بفاعل، والصنعة لا تكون صنعة إلا بصانع، بل إذا رأوا الحادث علموا بعقولهم أنه لا بد له من فاعل أحدثه، وقد يرون ما يصلح أن يكون فاعلا، ولا يعلمون: هل فعل شيئا أو لم يفعله؟ فكان فيما ذكره بيان الأبين الأظهر بالأخفى، وهم يمنعون من تحديد الأظهر بالأخفى. وقد قلنا: إن مثل هذا قد يستعمل مع جهل المخاطب أو عناده ونحو ذلك.