الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقد نبه الكتاب العزيز على العناية بالإنسان لتسخير جميع السماوات له، في غير ما آية. مثل قوله سبحانه: وسخر لكم الليل والنهار [سورة إبراهيم:33 ] الآية. [ ص: 210 ]

فإذا تأمل الإنسان هذه الأفعال والتدبيرات اللازمة والمتقنة عن حركات الكواكب، ورأى الكواكب تتحرك هذه الحركات وهي ذوات أشكال محدودة، ومن جهات محدودة، ونحو حركات محدودة، وحركات متضادة - علم أن هذه الأفعال المحدودة إنما هي عن موجودات مدركة حية، ذوات اختيار وإرادة، ويزيده إقناعا في ذلك أن يرى أن كثيرا من الأجسام الصغيرة الحقيرة الخسيسة المظلمة الأجساد التي ها هنا، لم تعدم الحياة بالجملة، على صغر أجرامها، وخساسة أقدارها، وقصر أعمارها، وإظلام أجسادها، وأن الجود الإلهي أفاض عليها الحياة والإدراك، التي بها دبرت ذاتها، وحفظت وجودها - علم على القطع أن الأجسام السماوية أحرى أن تكون حية مدركة من هذه الأجسام، لعظم أجرامها، وشرف وجودها، وكثرة أنوارها. [ ص: 211 ]

كما قال سبحانه: لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس [سورة غافر:57 ] الآية، وبخاصة إذا اعتبر تدبيرها الأجسام الحية التي ها هنا، علم على القطع أنها حية، فإن الحي لا يدبره إلى حي أكمل حياة منه، فإذا تأمل الإنسان هذه الأجسام العظيمة الحية، الناطقة المختارة المحيطة بنا، ونظر إلى أصل ثالث، وهو أن عنايتها بما ها هنا هي غير محتاجة إليها في وجودها، علم أنها مأمورة بهذه الحركات، ومسخرة لما دونها من الحيوانات والنباتات والجمادات، وأن الآمر لها غيرها، وهو غير جسم ضرورة، لأنه لو كان جسما لكان واحدا منها، وكل واحد منها مسخر لما دونه ها هنا من الموجودات، وخادم لما ليس يحتاج إلى خدمته في وجود ذاته، وأنه لولا مكان هذا الآمر لها لما اعتنت بما ها هنا على الدوام والاتصال، لأنها مدبرة ولا منفعة لها، خاصة في هذا الفعل فإذن إنما تتحرك من قبل الأمر والتكليف للجرم المتوجه [ ص: 212 ] إليها لحفظ ما ها هنا وإقامة وجوده، والآمر هو الله تعالى. وهذا كله معنى قوله تعالى: أتينا طائعين .

قال: (ومثال هذا في الاستدلال: لو أن إنسانا رأى جمعا عظيما من الناس، ذوي نطق وفضل، مكبين على أفعال محدودة، لا يخلون بها طرفة عين، مع أن تلك الأفعال غير ضرورية في وجودهم، وهم غير محتاجين إليها - لأيقن على القطع أنهم مكلفون ومأمورون بتلك الأفعال، وأن لهم آمرا هو الذي أوجب لهم تلك الخدمة الدائمة، للعناية بغيرهم المستمرة، هو أعلى قدرا منهم، وأرفع مرتبة، وأنهم كالعبيد مسخرين له.

وهذا المعنى هو الذي أشار إليه الكتاب العزيز في قوله سبحانه: وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين .[سورة الأنعام : 75]

وإذا اعتبر الإنسان أمرا آخر، وهو أن كل واحد من الكواكب السبعة، [ ص: 213 ] له حركات خادمة لحركاته الكلية، ذوات أجسام تخدم جسمه الكلي، كأنها خدمة يعتنون بخادم واحد - علم أيضا على القطع أن لجماعة كل كوكب منها آمرا خاصا بهم، رقيبا عليهم، من قبل الآمر الأول مثل ما يعرض عند تدبير الجيوش: أن يكون منها جماعة جماعة، كل واحد منها تحت آمر واحد، وأولئك الآمرون، وهم المسمون العرفاء، يرجعون إلى أمير واحد، وهو أمير الجيش.

التالي السابق


الخدمات العلمية