الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ابن رشد: (وإن فهمنا من الممكن ما له علة وهو ضروري، لم يلزم من ذلك إلا أن ما له علة فله علة) .

قلت: وذلك لأنه إذا قسم الوجود إلى ما له علة، وما لا علة له، وسمى هذا الأول ممكنا، ثم قسم هذا الممكن إلى: الممكن الحقيقي - وهو الحادث - وإلى الضروري - وهو القديم المعلول - لم يلزم من ذلك إلا إثبات قديم معلول، وهو أن هذا الضروري الذي له علة، هو ضروري له علة.

وهذا إذا قدر أنه أثبت هذا القسم. وحينئذ فيكون قد أثبت ضروريا واجب الوجود معلولا.

قال: وإذا أمكن أن يكون الضروري الواجب الوجود معلولا لعلة، أمكن أيضا أن تكون تلك العلة، وإن كانت ضرورية واجبة [ ص: 178 ] الوجوب معلولة لعلة أخرى وهلم جرا، ولم يكن على هذا التقدير معنا ما يدل على امتناع هذا التسلسل، لأن مضمونه إثبات أمور واجبة ضرورية كل منها له علة، والجملة كلها واجبة ضرورية، مع كونها وكون كل منها معلولا، وهو الممكن بهذا الاصطلاح المتأخر، إذا الممكن عندهم يكون ضروريا واجب الوجود ممتنع العدم - مع كونه معلولا لغيره. فلا يمتنع على هذا التقدير وجود علل ومعلولات كل منها واجب ضروري، ويسمى ممكنا باعتبار أنه معلول، وإن كان ضروريا واجب الوجود، لا باعتبار أنه محدث مفتقر إلى فاعل.

وحقيقة الأمر أنهم قدروا أمورا متسلسلة، كل منها واجب الوجود ضروري يمتنع عدمه، وكل منها معلول، وسموه باعتبار ذلك ممكنا، وقالوا: إنه يقبل الوجود والعدم. وحينئذ فلا يمكنهم إثبات افتقار واحد منها إلى علة، فضلا عن افتقارها كلها، لأن التقدير أنها جميعها ضرورية الوجود لا تقبل العدم، ومثل هذا يعقل افتقاره إلى فاعل، ويعود الأمر إلى الممكن الذي أثبتوه، وهو الضروري الواجب الوجود القديم الأزلي: هل يفتقر إلى فاعل ومرجح يرجح وجوده على عدمه؟

وقد عرف أنه ليس لهم على ذلك دليل، بل جميع العقلاء يقولون: إن هذا لا يفتقر إلى فاعل. ولهذا لما بنوا إثبات واجب الوجود على إثبات هذا الممكن - كما فعله ابن سينا والرازي والآمدي وغيرهم - لم يمكنهم إقامة دليل على أن هذا الممكن - بهذا التفسير - يفتقر إلى فاعل، وورد على هذا الممكن من الأسولة ما لم يمكنهم الجواب عنه، كما قد ذكر بعض ذلك في غير هذا الموضع. [ ص: 179 ]

وقد ذكر بعض ذلك الرازي في "الأربعين" و"نهاية" العقول و"المطالب العالية" و"المحصل" وغير ذلك من كتبه.

وهؤلاء قسموا الوجود إلى واجب وممكن، وعنوا بالممكن ما له علة، وأدخلوا في الممكن القديم الأزلي الضروري الواجب الذي يمتنع عدمه، فيلزمهم بيان أن هذا الممكن لا بد له من واجب، فلم يثبتوا ذلك إلا بأن المحدث يفتقر إلى فاعل.

هذا حق، لكنه يدل على إثبات قديم أزلي، لا يدل على أن القديم الأزلي ينقسم إلى واجب وممكن كما ادعوه. ولما لم يثبتوا هذا الممكن، والواجب لا يثبت إلا بثبوته، لم يثبتوا لا واجبا ولا ممكنا، ولا عرف انقسام الوجود إلى واجب وممكن على اصطلاحهم، بل غايتهم ثبوت الواجب على التقديرين.

وإن لم يثبت الممكن، فإنه إن كان الممكن ثباتا فقد ثبت الواجب، وإن لم يكن ثابتا فقد بقي القسم الآخر، وهو الواجب، لأنه لا واسطة بين النفي والإثبات.

ونحن قلنا: الموجود: إما أن يكون له علة، وإما أن يكون لا علة له، والمعلول لا بد له من علة، فلزم ثبوت ما لا علة له على التقديرين وهو المطلوب.

قيل لهم: هذا لا ينفعكم لوجهين:

أحدهما: أنكم لم تثبتوا وجودا لا علة له، ومجرد التقسيم لا يدل عليه، بل جوزتم أن يكون موجود قديم أزلي معلول. وعلى هذا التقدير [ ص: 180 ] فيجوز وجود علل ومعلولات لا تتناهى، فلا يثبت لكم وجود لا علة له.

الثاني: أن يقال: هذا غايته أن يدل على ثبوت وجود واجب. فمن قال: الوجود كله واحد، وهو واجب لا ينقسم إلى واجب وممكن، ولا قديم ومحدث، فقد وفى بموجب دليلكم، وهذا مما يبين به غاية كلام هؤلاء.

ولما كان هذا منتهى كلامهم، صار السالكون لطريقهم نوعين:

نوعا يقول: لم يثبت واجب الوجود لإمكان علل ومعلولات لا تتناهى، ويوردون على إبطال التسلسل ما يقولون: لا جواب عنه، كالآمدي وغيره. ونوعا يقول: الوجود كله واجب: قديمه ومحدثه، وليس في الوجود موجودان: أحدهما قديم، والآخر محدث، وأحدهما واجب والآخر ممكن، بل عين وجود المحدث الممكن هو عين وجود الواجب القديم، كما يقوله ابن عربي وأتباعه، كابن سبعين والقونوي.

فليتدبر من هداه الله هذا التناقض العظيم، الذي أفضى إليه هذا الطريق الفاسد، الذي سلكه ابن سينا وأتباعه، في إثبات واجب الوجود. فنظارهم يعترفون بأنه لم يقم دليل على إثبات وجود واجب، بل ولا على ممكن بالمعنى الذي قدره.

ومعلوم أن هذا في غاية السفسطة، فإن انقسام الموجود إلى [ ص: 181 ] واجب: هو قديم أزلي، وإلى ممكن: هو محدث وجد بعد أن لم يوجد، معلوم بالضرورة لجميع العقلاء وعوامهم.

وصوفيتهم يقولون: الوجود الواجب القديم الأزلي هو عين الوجود المحدث ليس هنا وجودان: أحدهما واجب قديم، والآخر ممكن محدث، فهؤلاء يجمعون بين النقيضين، حين يجعلون الوجود الواحد قديما حادثا ممكنا، معلولا مفعولا واجبا، وغير مفعول ولا معلول.

وأولئك لم يثبت عندهم أحد النقيضين، بل يشكون في رفع النقيضين، فلم يثبت عندهم وجود واجب، بل ولا ممكن بالمعنى الذي قرره.

ومعلوم أن الموجود مشهود، وأنه إما ممكن وإما واجب، فمن رفع النوعين أو شك في ثبوتهما، أو ثبوت أحدهما، فهو في غاية السفسطة، كما أن من لم يثبتهما، بل جعل الجميع واجبا بنفسه قديما أزليا، وأنكر وجود الحوادث، فهو في غاية السفسطة. والكلام على هؤلاء مبسوط في موضع آخر.

التالي السابق


الخدمات العلمية