ثم قال: (فصل) : وإذا ثبت أن أول الواجبات، فإنما يجب وإذا كانت محدثة وجب أن يكون لها محدث، لأن المحدث لو لم يتعلق بمحدث، لم تتعلق الكتابة بكاتب، والضرب بضارب، لأن ذلك كله يبعد، إذ استحالة محدث لا محدث له كاستحالة كتابة لا كاتب لها. فلو جاز محدث لا محدث له، لجاز محدث لا إحداث له وذلك محال. النظر في الطريق الموصل إلى معرفة الله، وهو حدوث الأشياء من الجواهر [ ص: 351 ] والأجسام،
وأيضا، فإنا نرى الحوادث يتقدم بعضها على بعض، ويتأخر بعضها عن بعض، فلولا أن مقدما قدم منها ما قدم، وأخر منها ما أخر،، لم يكن ما تقدم منها أولى من أن يكون متأخرا، وما تأخر منها أولى من أن يكون متقدما، فدل ذلك على أن لها مقدما محدثا لها، قدم منها ما قدم، وأخر منها ما أخر) .
وكان القاضي قد سمع رسالة في "الغنية عن الكلام وأهله" على الخطابي مسعود السجزي، عن علي بن سري السجستاني، عن وذكر أن بعض الناس اعترض عليها. الخطابي،
فإن ذكر الغنية عن الاستدلال بحدوث الجواهر والأجسام، لكونها لا تنفك عن الحوادث كما تقدم. وقال: (فأما مثبتو النبوات فقد أغناهم الله تعالى عن ذلك) . [ ص: 352 ] الخطابي
وهذه طريقة السلف من أئمة المسلمين في الاستدلال على معرفة الصانع، وحدوث العالم، لأنه إذا ثبتت نبوته بقيام المعجز (وجب تصديقه على ما أنبأهم عنه من الغيوب، ودعاهم إليه من أمر وحدانية الله تعالى وصفاته وكلامه) .. (وقد نبههم في كتابه على الاستدلال به على ربوبيته فقال: وفي أنفسكم أفلا تبصرون [سورة الذاريات:25]..) وقال: أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت [سورة الغاشية:17-20]، وقوله: إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات [سورة آل عمران:190]، وما أشبه ذلك مما يدل على إثبات الصانع) إلى آخر كلامه. [ ص: 353 ]
قال القاضي: (وقد اعترض على هذا بعضهم فقال: هذه رجوع منهم ومناف لما ذكره، لأنه حث على الاعتبار بأنفسنا وبالسماوات والأرض، وليس ذلك بمعجزات الأنبياء، وإنما هي الأجسام والأعراض) .