قلت: صاحب هذا القول إن أراد بالفطرة التمكن من المعرفة والقدرة عليها، فهذا ضعيف. فإن مجرد القدرة على ذلك لا يقتضي أن يكون حنيفا، ولا أن يكون على الملة، ولا يحتاج أن يذكر تغيير أبويه لفطرته، حتى يسأل عمن مات صغيرا. ولأن القدرة هي في الكبير أكمل منها في الصغير.
وهو لما ولو أريد القدرة لكان البالغون كذلك، مع كونهم مشركين، مستوجبين للقتل. نهاهم عن قتل الصبيان، فقالوا: إنهم أولاد المشركين. قال: أليس خياركم أولاد المشركين؟ ما من مولود إلا يولد على الفطرة.
[ ص: 386 ] وإن أراد بالفطرة القدرة على المعرفة مع إرادتها، فالقدرة الكاملة مع الإرادة التامة تستلزم وجود المراد المقدور، فدل على أنهم فطروا على القدرة على المعرفة وإرادتها وذلك مستلزم للإيمان.
قال: (وقال آخرون معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: ، يعني البدأة التي ابتدأهم عليها، يريد أنه مولود على ما فطر الله عليه خلقه من أنه ابتدأهم للحياة والموت، والسعادة والشقاوة، وإلى ما يصيرون إليه عند البلوغ من قبولهم عن آبائهم اعتقادهم) . « كل مولود يولد على الفطرة»
(قالوا: واحتجوا بقوله تعالى: والفطرة في كلام العرب البداءة. والفاطر المبدئ والمبتدئ، فكأنه قال: -صلى الله عليه وسلم-: يولد على ما ابتدأه الله عليه من الشقاوة والسعادة، وغير ذلك مما يصير إليه وقد فطره عليه. كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة .[سورة الأعراف:29-30]
وروي بإسناده إلى قال: لم أدر ما فاطر السماوات والأرض حتى أتى أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا [ ص: 387 ] فطرتها، أي ابتدأتها) .. (وذكروا ما يروى عن (ابن عباس -رضي الله عنه- في دعائه: اللهم جبار القلوب على فطرتها، شقيها وسعيدها) . قلت: حقيقة هذا القول أن كل مولود فإنه يولد على ما سبق في علم الله أنه صائر إليه. ومعلوم أن جميع المخلوقات بهذه المثابة، فجميع البهائم هي مولودة على ما سبق في علم الله لها. والأشجار مخلوقة على ما سبق في علم الله لها. وحينئذ فيكون كل مخلوق مخلوقا على الفطرة. علي
وأيضا فإنه لو كان المراد ذلك لم يكن لقوله: معنى، فإنهما فعلا به ما هو الفطرة التي ولد عليها، على هذا القول، فلا فرق بين التهويد والتنصير حينئذ، وبين تلقين الإسلام وتعليمه، وبين تعليم سائر الصنائع، فإن ذلك كله داخل فيما سبق به العلم. « فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه»
وأيضا فتمثيله ذلك بالبهيمة التي ولدت جمعاء ثم جدعت، يبين أن أبويه غيرا ما ولد عليه.
وأيضا فقوله: ، وقوله: (على هذه الملة) يخالف هذا. (إني خلقت [ ص: 388 ] عبادي حنفاء)
وأيضا فلا فرق بين حال الولادة وسائر أحوال الإنسان، فإنه من حين كان جنينا إلى ما لا نهاية له من أحواله، على ما سبق في علم الله، فتخصيص الولادة بكونها على مقتضى القدر تخصيص بغير مخصص.
وقد ثبت في الصحيح أنه: فلو قيل: كل مولود ينفخ فيه الروح على الفطرة، لكان أشبه بهذا المعنى، مع أن النفخ هو بعد الكتابة. قبل نفخ الروح فيه يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد،
قال (قال ابن عبد البر: أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي: وهذا المذهب شبيه بما حكاه أبو عبيد عن أنه سئل عن هذا الحديث، فقال: يفسره الحديث الآخر حين ابن المبارك، [ ص: 389 ] سئل عن أطفال المشركين: الله أعلم بما كانوا عاملين.
قال المروزي: وقد كان يذهب إلى هذا القول، ثم تركه. أحمد بن حنبل
قال ما رسمه ابن عبد البر: في موطأه، وذكره في أبواب القدر، فيه من الآثار ما يدل على أن مذهبه في ذلك نحو هذا) . مالك