ثم إن هؤلاء صاروا يقولون: هذا القرآن المنزل المسموع هو تلاوة القرآن وقراءته، وتلاوة القرآن مخلوقة، وقراءة القرآن مخلوقة.
ويقولون: تلاوتنا للقرآن مخلوقة، وقراءتنا له مخلوقة، ويدخلون في ذلك نفس الكلام المسموع، ويقولون: لفظنا بالقرآن مخلوق، يدخلون في ذلك القرآن الملفوظ المتلو المسموع.
فأنكر وغيره من أئمة السنة هذا، وقالوا: اللفظية الإمام أحمد جهمية، وقالوا: الجهمية ثلاث فرق: فرقة قالت: القرآن مخلوق، وفرقة قالت: نقف فلا نقول مخلوق ولا غير مخلوق، وفرقة قالت: تلاوة القرآن واللفظ بالقرآن مخلوق. [ ص: 261 ] افترقت
فلما انتشر ذلك عن أهل السنة غلطت طائفة فقالت: لفظنا بالقرآن غير مخلوق، وتلاوتنا له غير مخلوقة، فبدع هؤلاء، وأمر بهجرهم. الإمام أحمد
ولهذا ذكر في مقالاته هذا عن أهل السنة وأصحاب الحديث، فقال: والقول باللفظ والوقف عندهم بدعة، الأشعري ومن قال: «غير مخلوق» فهو مبتدع. من قال: «اللفظ بالقرآن مخلوق» فهو مبتدع عندهم،
وكذلك ذكر في صريح السنة أنه سمع غير واحد من أصحابه يذكر عن محمد بن جرير الطبري أنه قال: الإمام أحمد ومن قال: «إنه غير مخلوق» فهو مبتدع. من قال: «لفظي بالقرآن مخلوق» فهو جهمي،
وصنف أبو أحمد بن قتيبة في ذلك كتابا، وقد ذكر هذا في كتاب السنة وبسط القول في ذلك، وذكر ما صنفه أبو بكر الخلال في ذلك، وذكر قصة أبو بكر المروزي أبي طالب المشهورة التي نقلها عنه أكابر أصحابه، كعبد الله وصالح ابنيه والمروزي وأبي محمد فوران وغير هؤلاء. [ ص: 262 ] ومحمد بن إسحاق الصاغاني
ومرادهم أن القرآن المسموع غير مخلوق، وليس مراده صوت العبد، كما يذكر ذلك عن وكان أهل الحديث قد افترقوا في ذلك، فصار طائفة منهم يقولون: لفظنا بالقرآن غير مخلوق أبي حاتم الرازي، ومحمد بن داود المصيصي، وطوائف غير هؤلاء.
وفي أتباع هؤلاء من قد يدخل صوت العبد أو فعله في ذلك أو يقف فيه، ففهم ذلك بعض الأئمة، فصار يقول: أفعال العباد أصواتهم مخلوقة، ردا لهؤلاء، كما فعل البخاري وغيرهما من أهل العلم والسنة. ومحمد بن نصر المروزي
وصار يحصل بسبب كثرة الخوض في ذلك ألفاظ مشتركة، وأهواء للنفوس، حصل بسبب ذلك نوع من الفرقة والفتنة، وحصل بين وبين البخاري في ذلك ما هو معروف، وصار قوم مع محمد بن يحيى الذهلي البخاري ونحوه، وقوم عليه كمسلم بن الحجاج كأبي زرعة وأبي حاتم الرازيين وغيرهما. [ ص: 263 ]
وكل هؤلاء من أهل العلم والسنة والحديث، وهم من أصحاب ولهذا قال أحمد بن حنبل، إن أهل السنة لم يختلفوا في شيء من أقوالهم إلا في مسألة اللفظ. ابن قتيبة:
وصار قوم يطلقون القول بأن التلاوة هي المتلو، والقراءة هي المقروء، وليس مرادهم بالتلاوة المصدر، ولكن الإنسان إذا تكلم بالكلام فلا بد له من حركة، ومما يكون عن الحركة من أقواله التي هي حروف منظومة ومعان مفهومة، والقول والكلام يراد به تارة المجموع فتدخل الحركة في ذلك، ويكون الكلام نوعا من العمل وقسما منه، ويراد به تارة ما يقترن بالحركة ويكون عنها، لا نفس الحركة، فيكون الكلام قسيما للعمل، ونوعا آخر ليس هو منه، ولهذا تنازع العلماء في لفظ العلم المطلق: هل يدخل فيه الكلام؟، على قولين معروفين لأصحاب وغيرهم، وبنوا على ذلك ما إذا حلف لا يعمل اليوم عملا، فتكلم، هل يحنث أم لا؟ على قولين، وذلك لأن لفظ الكلام قد يدخل في العمل وقد لا يدخل. أحمد
فالأول كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: أخرجاه في الصحيحين، فقد جعل فعل هذا الذي يتلوه آناء الليل والنهار عملا، كما قال: لعملت فيه مثل ما يعمل فلان. [ ص: 264 ] «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل والنهار، فقال رجل: لو لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان»
والثاني كما في قوله تعالى: إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه [فاطر: 10] ، وقوله تعالى: وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه [يونس: 61] فالذين قالوا التلاوة هي المتلو من أهل العلم والسنة قصدوا أن التلاوة هي القول والكلام المقترن بالحركة، وهي الكلام المتلو.
وآخرون قالوا: بل التلاوة غير المتلو، والقراءة غير المقروء، والذين قالوا ذلك من أهل السنة والحديث أرادوا بذلك أن أفعال العباد ليس هي كلام الله، ولا أصوات العباد هي صوت الله، وهذا الذي قصده وهو مقصود صحيح. البخاري،
وسبب ذلك أن لفظ: التلاوة، والقراءة، واللفظ مجمل مشترك: يراد به المصدر، ويراد به المفعول.