فإن قلتم: كل ما خطر للمستمع لزومه، فقد دل اللفظ عليه باللزوم، وإلا فلا.
قيل لهم: فحينئذ يخطر له لزوم هذا، ثم لزوم هذا، ويلزم ما ذكرتم من التسلسل، فلا فرق. [ ص: 122 ]
وحينئذ فالتحقيق أن كلا اللزومين معتبر، فاللزوم الخارجي ثابت في نفس الأمر.
وأما معرفة المستمع به فموقوف على شعوره باللزوم، فمهما شعر به من اللوازم، استدل عليه باللزوم. وليس لذلك حد، بل كل ملزوم فهو دليل على لازمه لمن شعر بالتلازم.
وهذا هو الدليل، فالدليل أبدا مستلزم للمدلول من غير عكس، وليس المراد بدلالة الالتزام أن المتكلم قصد أن يدل المستمع بها، فإن هذا لا ضابط له، بل المراد أن المستمع يستدل هو بثبوت معنى اللفظ على ثبوت لوازمه، وهي دلالة عقلية، تابعة للدلالة الإرادية، وجعلت من دلالة اللفظ لأنه دل على التلازم، بتوسط دلالته على الملزوم.
وفي الجملة، فكل دليل في الوجود هو ملزوم للمدلول عليه، ولا يكون الدليل إلا ملزوما، ولا يكون ملزوم إلا دليلا، فكون الشيء دليلا وملزوما أمران متلازمان، وسواء سمي ذلك برهانا أو حجة أو أمارة أو غير ذلك.
وأما كونه علة، فأخص من كونه دليلا، فكل علة فهي دليل على المعلول، وليس كل دليل علة.
ولهذا كان قياس الدلالة أعم من قياس العلة، وإن كان قياس العلة أشرف؛ لأنه يفيد السبب العلمي والعيني، وقياس الدلالة إنما يفيد السبب العلمي.
ولهذا يعظمون برهان اللمية على برهان الإنية، ويقولون: برهان لم أشرف من برهان إن. [ ص: 123 ]
فمن كان علمه أكمل العلوم، وقد علم علة كل موجود، كيف لا يكون عالما بأكمل دليل يدل على كل موجود؟
ولو قدر أن الواحد منا يعلم الرب على ما هو عليه، لكان عليما بكل شيء، لكن قوانا تعجز عن ذلك. وأما هو سبحانه فهو يعلم نفسه، وهي ملزومة لكل موجود، وخالقة لكل شيء، وموجبة بمشيئتها وقدرتها لكل شيء، وبلغتهم: هي علة لكل شيء.
وهو سبحانه الدليل والبرهان على كل شيء من هذه الجهة، ومن جهة أنه يدل عباده بإعلامه وهدايته وكلامه، فإذا كان هو سبحانه عالما بنفسه، المستلزمة لكل شيء، التي هي دليل على كل شيء، وموجبة لكل شيء، وباصطلاحهم: علة لكل شيء -وجب أن يكون عالما بكل شيء، وإلا لم يكن عالما بنفسه، بل كان عالما ببعض أحوال نفسه، والتقدير أنه عالم بنفسه.