إذا تبين هذا، فقول القائل: كل من أدرك علل الكائنات، من حيث إنها طبائع إلى آخره.
يقال له: أتريد أنه أدركها كلية، مثل أن يدرك أن في العالم حارا وباردا، وأنهما يلتقيان على وجه كذا؟ أو تريد أنها إدراك الطبائع الموجودة المعينة؟
فإن أردت الأول، لم يكن في العلم بذلك علم بشيء من الموجودات.
وإن أردت الثاني، فإنه يلزم من العلم بها، العلم بلوازمها، كما تقدم من أن العلم بالعلة التامة يستلزم العلم بمعلولها، فيلزم من ذلك أن يعلم جميع معلولاتها ولوازمها. وليس في المعينات إلا ما هو معلولها [ ص: 173 ] ولوازمها، فيلزم العلم بكل شيء جزئي على سبيل التعيين، ويلزم العلم بطوله وعرضه وعمقه وقدره، سواء كان من الكم المتصل أو المنفصل.
ولهذا كان قول المرسلين: إن الله أحصى كل شيء عددا، فهو يعلم أوزان الجبال، ودورات الزمان، وأمواج البحار، وقطرات المطر، وأنفاس بني آدم: وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين [الأنعام: 59].
يبين هذا أنه قد تقدم أن العلم بالعلة التامة يستلزم العلم بمعلولها، وهي الموجب، والرب سبحانه هو موجب بمشيئته وقدرته لكل ما يشاؤه.
وهم يسمونه علة، وهو إنما يوجد شيئا معينا، لا يوجد شيئا كليا؛ إذ الخارج ليس فيه شيء كلي، فيجب أن يكون عالما بكل شيء جزئي، كما أنه خالق لكل شيء جزئي.
وإن كان له علم عام كلي بالأمور الكلية، فلا منافاة بين هذا وهذا، بل مخلوقه له بالكلي والجزئيات، فالخالق أولى بذلك.
وقولهم: إن إدراكها على هذا الوجه إنما يحصل بالإحساس أو التخيل.
فيقال لهم: لا ريب أن سبحانه وتعالى. الله سميع بصير، يسمع ويرى،
وقد روى ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، في قوله تعالى: إلا لنعلم من يتبع الرسول [البقرة: 143]، ونحو ذلك. قال: إلا [ ص: 174 ] لنرى.
ففسر العلم المقرون بالوجود بالرؤية، فإن المعدوم لا يرى، بخلاف الموجود، وإن كانت الرؤية تتضمن علما آخر.