والدرجة الثالثة: الدلالة التي يقصدها الدال: فمنها: الإعلام بغير خطاب مسموع، كمن يعلم لغيره علامات تدله على ما يريد، وكإشارة الأخرس، ونحو ذلك. فالله تعالى قد يعلم عباده بأنواع كثيرة من الدلائل والإعلام.
وهذا هو الذي أثبته المذكور. ولكن لازم هذا أن يكون كل من علم علما فقد كلمه الله، فإنه قد نصب دليلا يعرفه بذلك، والله عالم به، وهو مريد لما وقع.
ولهذا قال: "وقد يكون
nindex.php?page=treesubj&link=28743من تكليم الله ما يلقيه إلى العلماء بواسطة البراهين". لكن من الناس من يستشعر أن الله هداه إلى ذلك وعلمه إياه، بما نصبه من الأدلة. ومن الناس من قد يعرض عن ذلك، ولا ينظر إلا إلى ما دله، وقد يقع بنفس الإنسان من ذلك ما لا يعرف عليه دليلا معينا.
ومعلوم أن جعل كلام الله ليس إلا من هذا النوع خطأ، بل هذا النوع ليس هو الإيحاء المذكور في القرآن، فإن ذاك إيحاء بما يؤمر به.
[ ص: 203 ]
كما قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=111وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي [المائدة: 111].
وقال:
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=7وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه [القصص: 7].
بل إيحاء النحل ليس مقتصرا على هذا، فإن ذاك أيضا إيحاء بما يريد أن يفعل، وهذا ليس فيه إلا مجرد الإعلام.
والتكليم للغير قد يكون مجرد إخبار له وإعلام، وقد يكون طلبا منه لفعل أو لترك: إما لمصلحته، وإما لمجرد إرادة الأمر. وهذا النوع من التكلم مستلزم للأول، والأول لا يستلزم هذا، فليس كل من أعلم بشيء أمر بشيء، وكل من أمر بشيء فقد أعلم بالمأمور به، وهو لم يذكر إلا مجرد الإعلام، فاقتصر على أدنى نوعي التعليم في آخر درجات التكليم.
وهذا الذي ذكره غاية ما يثبته القائلون بقدم العالم من المتفلسفة والصابئة ونحوهم.
والذين يقولون: إن الله يتكلم بكلام مخلوق يخلقه في غيره، خير من هؤلاء.
وهذا الدرجة أرفع من درجة مجرد الإعلام مع قصده العلم؛ لأن هذا إعلام بكلام منظوم مسموع، وهذا أبلغ من إعلام بمجرد ما يقع في النفس، فإذا كان من لم يثبت لله كلاما إلا كلاما مخلوقا في غيره، مع أنه حروف منظومة، من أضل الناس عند سلف الأمة وأئمتها، فكيف من لم يثبت إلا مجرد الإعلام؟!
وأهل السنة لا ينازعون في أن مثل هذا الإعلام واقع من جهة الله
[ ص: 204 ] تعالى، ولكن يقولون: ليس كلامه وتكليمه هو هذا فقط، بل هذا يحصل لعموم الخلق.
وَالدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: الدَّلَالَةُ الَّتِي يَقْصِدُهَا الدَّالُّ: فَمِنْهَا: الْإِعْلَامُ بِغَيْرِ خِطَابٍ مَسْمُوعٍ، كَمَنْ يُعَلِّمُ لِغَيْرِهِ عَلَامَاتٍ تَدُلُّهُ عَلَى مَا يُرِيدُ، وَكَإِشَارَةِ الْأَخْرَسِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ يُعَلِّمُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْإِعْلَامِ.
وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَثْبَتَهُ الْمَذْكُورُ. وَلَكِنْ لَازِمُ هَذَا أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَنْ عَلِمَ عِلْمًا فَقَدْ كَلَّمَهُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ قَدْ نَصَبَ دَلِيلًا يُعَرِّفُهُ بِذَلِكَ، وَاللَّهُ عَالِمٌ بِهِ، وَهُوَ مُرِيدٌ لِمَا وَقَعَ.
وَلِهَذَا قَالَ: "وَقَدْ يَكُونُ
nindex.php?page=treesubj&link=28743مِنْ تَكْلِيمِ اللَّهِ مَا يُلْقِيهِ إِلَى الْعُلَمَاءِ بِوَاسِطَةِ الْبَرَاهِينِ". لَكِنْ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَسْتَشْعِرُ أَنَّ اللَّهَ هَدَاهُ إِلَى ذَلِكَ وَعَلَّمَهُ إِيَّاهُ، بِمَا نَصَبَهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَدْ يُعْرِضُ عَنْ ذَلِكَ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَّا إِلَى مَا دَلَّهُ، وَقَدْ يَقَعُ بِنَفْسِ الْإِنْسَانِ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَعْرِفُ عَلَيْهِ دَلِيلًا مُعَيَّنًا.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ جَعْلَ كَلَامِ اللَّهِ لَيْسَ إِلَّا مِنْ هَذَا النَّوْعِ خَطَأٌ، بَلْ هَذَا النَّوْعُ لَيْسَ هُوَ الْإِيحَاءُ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ، فَإِنَّ ذَاكَ إِيحَاءٌ بِمَا يُؤْمَرُ بِهِ.
[ ص: 203 ]
كَمَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=111وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي [الْمَائِدَةُ: 111].
وَقَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=7وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ [الْقَصَصُ: 7].
بَلْ إِيحَاءُ النَّحْلِ لَيْسَ مُقْتَصِرًا عَلَى هَذَا، فَإِنَّ ذَاكَ أَيْضًا إِيحَاءٌ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَ، وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ إِلَّا مُجَرَّدُ الْإِعْلَامِ.
وَالتَّكْلِيمُ لِلْغَيْرِ قَدْ يَكُونُ مُجَرَّدَ إِخْبَارٍ لَهُ وَإِعْلَامٍ، وَقَدْ يَكُونُ طَلَبًا مِنْهُ لِفِعْلٍ أَوْ لِتَرْكٍ: إِمَّا لِمَصْلَحَتِهِ، وَإِمَّا لِمُجَرَّدِ إِرَادَةِ الْأَمْرِ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّكَلُّمِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْأَوَّلِ، وَالْأَوَّلُ لَا يَسْتَلْزِمُ هَذَا، فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أُعْلِمَ بِشَيْءٍ أُمِرَ بِشَيْءٍ، وَكُلُّ مَنْ أُمِرَ بِشَيْءٍ فَقَدْ أُعْلِمَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ، وَهُوَ لَمْ يَذْكُرْ إِلَّا مُجَرَّدَ الْإِعْلَامِ، فَاقْتَصَرَ عَلَى أَدْنَى نَوْعَيِ التَّعْلِيمِ فِي آخِرِ دَرَجَاتِ التَّكْلِيمِ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ غَايَةُ مَا يُثْبِتُهُ الْقَائِلُونَ بِقِدَمِ الْعَالِمِ مِنَ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالصَّابِئَةِ وَنَحْوِهِمْ.
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ مَخْلُوقٍ يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ، خَيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ.
وَهَذَا الدَّرَجَةُ أَرْفَعُ مِنْ دَرَجَةِ مُجَرَّدِ الْإِعْلَامِ مَعَ قَصْدِهِ الْعِلْمَ؛ لِأَنَّ هَذَا إِعْلَامٌ بِكَلَامٍ مَنْظُومٍ مَسْمُوعٍ، وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ إِعْلَامٍ بِمُجَرَّدِ مَا يَقَعُ فِي النَّفْسِ، فَإِذَا كَانَ مَنْ لَمْ يُثْبِتْ لِلَّهِ كَلَامًا إِلَّا كَلَامًا مَخْلُوقًا فِي غَيْرِهِ، مَعَ أَنَّهُ حُرُوفٌ مَنْظُومَةٌ، مِنْ أَضَلِّ النَّاسِ عِنْدَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا، فَكَيْفَ مَنْ لَمْ يُثْبِتْ إِلَّا مُجَرَّدَ الْإِعْلَامِ؟!
وَأَهْلُ السُّنَّةِ لَا يُنَازِعُونَ فِي أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِعْلَامِ وَاقِعٌ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ
[ ص: 204 ] تَعَالَى، وَلَكِنْ يَقُولُونَ: لَيْسَ كَلَامُهُ وَتَكْلِيمُهُ هُوَ هَذَا فَقَطْ، بَلْ هَذَا يَحْصُلُ لِعُمُومِ الْخَلْقِ.