وأما فقد قال تعالى: قولهم: إن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم وشفتين ولسان وأدوات، وسخرنا مع داود الجبال يسبحن [ سورة الأنبياء: 79] أتراها أنها يسبحن بجوف وفم ولسان وشفتين، والجوارح إذا شهدت على الكافر فقالوا: لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء [فصلت: 21] أتراها أنها نطقت بجوف وفم ولسان؟ ولكن الله أنطقها كيف شاء، وكذلك الله يتكلم كيف شاء، من غير أن نقول: بجوف ولا فم ولا شفتين ولا لسان. فلما خنقته الحجج قال: إن الله كلم موسى إلا أن كلامه غيره، فقلنا: وغيره مخلوق؟ قالوا: نعم، قلنا: مثل قولكم الأول، إلا أنكم [ ص: 294 ] تدفعون عن أنفسكم الشنعة، وحديث قال: " لما سمع الزهري موسى كلام الله قال: يا رب، هذا الذي سمعته هو كلامك؟ قال: نعم يا موسى هو كلامي، وإنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان، ولي قوة الألسن كلها، وأنا أقوى من ذلك، وإنما كلمتك على قدر ما يطيق بدنك، ولو كلمتك بأكثر من ذلك لمت، فلما رجع موسى إلى قومه قالوا له: صف لنا كلام ربك، فقال سبحان الله! وهل أستطيع أن أصفه لكم؟ قالوا: فشبهه، قال: هل سمعتم أصوات الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها، فكأنه مثله".
فقد ذكر في هذا الكلام: أحمد وذكر فيما استشهد به من الأثر أن الله تعالى يتكلم كيف شاء، "أن الله كلم موسى عليه السلام بقوة عشرة آلاف لسان" وأن له قوة الألسن كلها، وهو أقوى من ذلك، وأنه إنما كلم موسى على قدر ما يطيق، ولو كلمه بأكثر من ذلك لمات.
وهذا بيان منه لكون تكلم الله متعلقا بمشيئته وقدرته كما ذكر عبد العزيز.
وهو خلاف قول من يجعله كالحياة القديمة اللازمة للذات، التي [ ص: 295 ] لا تتعلق بمشيئة ولا قدرة. وبين أيضا في كلامه أنه سبحانه تكلم وسيتكلم ردا على الجهمية واستدل على أنه تكلم بالحديث الذي في الصحيحين عن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " عدي وجعل قوله: " سيكلمه ربه" دليلا على أنه سيتكلم، فبين أن التكلم عنده مستلزم للتكليم متضمن للتكلم، ليس هو مجرد خلق إدراك في المستدل. ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه"