الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الوجه السادس: أن هؤلاء الذين يرون تقديم عقولهم على كلام الله ورسوله، عادتهم يذكرون ذلك في مسائل العلو والصفات الخبرية ونحو ذلك مما جاء به الكتاب والسنة. [ ص: 300 ]

وهؤلاء يقولون: علمنا بأن الرسول أخبر بالعلو وبهذه الصفات علم ضروري من دينه، أبلغ من علمنا بثبوت اللعان والشفعة وحد القذف وسجود التلاوة والسهو ونحو ذلك.

وإذا كان ذلك معلوما بالاضطرار من دين الإسلام، لم يمكن أن يقال: إن الرسول لم يخبر به، بل لا يمكن إلا أحد أمرين: إما تكذيب الرسول، وإما رد هذه المعارضات المبتدعة.

قالوا: وعلمنا بصدق الرسول علم يقيني لا ريب يتخلله، فالشبه القادحة في ذلك كالشبه القادحة في العلوم العقلية اليقينية، وهذه من جنس شبه السوفسطائية، فنحن نعلم فسادها من حيث الجملة من غير خوض في التفصيل.

ولا ريب أن هذا الأصل مستقر في قلب كل مؤمن بالله ورسوله، فإن أهل الإلحاد قد يذكرون له شبهات يقدحون بها فيما جاء به الرسول في مواضع كثيرة، وقد لا يكون للمؤمن خبرة بالمناظرة في ذلك، لعدم العلم بعباراتهم ومقاصدهم في كلامهم، كمن يتكلم بلفظ (الجسم)، و(الجوهر)، و(الحيز)، و(الهيولى)، و(المادة)، و(الصورة)، و(الكلي)، و(الجزئي)، و(الماهية)، ونحو ذلك عند من ليس له خبرة بهذه الأوضاع والاصطلاحات، ويؤلفها تأليفا يتضمن القدح فيما أخبر الله به ورسوله، فإن المؤمن يعلم فساد ذلك مجملا، وإن لم يعرف وجه فسادها، لا سيما إذا لم يكن خبيرا بطرق [ ص: 301 ] المناظرة وترتيب الأدلة، وكيف يفسد المتعارض بالممانعة في موضعها، والمعارضة في موضعها، ونحو ذلك ما يبين به فساد الأقوال الباطلة المعارضة للحق.

وقول هؤلاء لنفاة الصفات نظير قول كل من آمن باليوم الآخر للملاحدة النفاة، إذا قالوا: قد قام الدليل العقلي على نفي المعاد مطلقا، أو نفي الأكل والشرب والنكاح ونحو ذلك في الجنة، أو على نفي معاد البدن، والنصوص المعارضة لذلك إما أن تأول وإما أن تفوض، فإن المؤمنين بالآخرة من أهل الكلام وغيرهم قالوا لهم: نحن نعلم ثبوت المعاد بالاضطرار من دين الإسلام، فلا يمكن دفع العلوم الضرورية، فلو لم يكن المعاد حقا لزم: إما جحد كون الرسول أخبر به، وإما جحد صدقه فيما أخبر، وكلاهما ممتنع، وإلا فمن علم أن الرسول أخبر به، وعلم أنه لا يخبر إلا بحق- علم بالضرورة أن المعاد حق.

وهذا بعينه يقوله مثبتو الصفات والأفعال للنفاة حذو القذة بالقذة، فإن هؤلاء النفاة للصفات المثبتين للمعاد هم بين المؤمنين بالجميع كالسلف والأئمة، وبين الملاحدة المنكرين للصفات والمعاد، فالملاحدة تقول لهم: قولنا في نفي المعاد كقولكم في نفي الصفات، فلا يستدل بالشرع على هذا ولا على هذا لمعارضة العقل له، والمؤمنون بالله ورسوله يقولون: لهم: قولنا لكم في الصفات كقولكم للملاحدة في المعاد.

التالي السابق


الخدمات العلمية