قلت: الإسراء وإن كان حقا ورؤية محمد صلى الله عليه وسلم قد جاءت بها آثار ثابتة، وهذا الحديث قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رآه بالمدينة [ ص: 288 ] في المنام، لكن هذا الحديث بهذا اللفظ المذكور في ليلة الإسراء من الموضوعات المكذوبات، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: «لما كانت ليلة أسري بي رأيت ربي في أحسن صورة، فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى»؟ وإنما ذكر أن ربه أتاه في المنام، وقال له هذا، ووضع يده بين كتفيه بالمدينة في منامه؛ ولهذا لم يحتج أحد من علماء الحديث بهذا، بل رووه للاحتجاج ولم يثبته أحد في الأحاديث المعروفة عند أهل العلم بالحديث، كما بيناه، فتبين أن القاضي ليس معه ما اعتمد عليه في رواية اليقظة إلا قول وآية النجم، وقول ابن عباس قد جمعنا ألفاظه، فأبلغ ما يقال لمن يثبت رؤية العين أن ابن عباس أراد بالمطلق رؤية العين؛ لوجوه: ابن عباس
أحدها: أن يقال: هذا المفهوم من مطلق الرؤية.
والثاني: لأن قالت: عائشة محمدا رأى ربه [ ص: 289 ] فقد أعظم على الله الفرية» وتأولت قوله تعالى: «من زعم أن لا تدركه الأبصار [الأنعام: 103] وقوله: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا [الشورى: 51] وذلك إنما ينفي رؤية العين، فعلم أنها فهمت من قول من قال: إن محمدا رأى ربه رؤية العين.
الثالث: أن في حديث عكرمة: أليس يقول الرب تعالى: لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار [الأنعام: 103] فقال: «لا أم لك ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء» ومعلوم أن هذه الآية إنما يعارض بها من يثبت رؤية العين؛ ولأن الجواب بقول: «ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء» يقتضي أن الإدراك يحصل في غير هذه الحال، وأن ما أخبر به من رؤيته هو من هذا الإدراك الذي هو رؤية البصر، وأن البصر أدركه، لكن لم يدركه في نوره الذي هو نوره الذي إذا تجلى فيه لم يدركه شيء.
وفي هذا الخبر من رواية ابن أبي داود «أنه سئل هل رأى ابن [ ص: 290 ] عباس: محمد ربه؟ قال: نعم، قال: وكيف رآه؟ قال: في صورة شاب دونه ستر من لؤلؤ، كأن قدميه في خضرة، فقلت أنا أليس في قوله: لابن عباس: لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير [الأنعام: 103] قال: لا أم لك! ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء» وهذا يدل على أنه رآه وأخبر أنه رآه في صورة شاب دونه ستر، وقدميه في خضرة، وأن هذه الرؤية هي المعارضة بالآية والمجاب عنها بما تقدم، فيقتضي أنها رؤية عين، كما في الحديث الصحيح المرفوع عن عن قتادة عكرمة عن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابن عباس «رأيت ربي في صورة شاب أمرد له وفرة جعد قطط في روضة خضراء».
الوجه الرابع: أن في حديث عبد الله بن أبي سلمة أن أرسل إلى عبد الله بن عمر يسأله: عبد الله بن عباس «هل رأى محمد ربه؟ فأرسل إليه أي نعم، فرد عليه [ ص: 291 ] عبد الله بن عباس: رسوله: أن كيف رآه؟ فأرسل إليه: رآه في روضة خضراء دونه فراش من ذهب على كرسي من ذهب، تحمله أربعة من الملائكة» عبد الله بن عمر كما تقدم.
وكون حملة العرش على هذه الصورة أربعة هو كذلك.
الوجه الخامس: أنه ذكر أن الله اصطفى محمدا بالرؤية كما اصطفى موسى بالتكليم، ومن المعلوم أن رؤية القلب مشتركة لا تختص بمحمد، كما أن الإيحاء لا يختص بموسى، ولا بد أن يثبت لمحمد من الرؤية على حديث ما لم يثبت لغيره، كما ثبت ابن عباس لموسى من التكليم كذلك، وعلى الروايات الثلاث اعتمد في تثبيت الرؤية؛ حيث قال: ابن خزيمة
[ ص: 292 ] باب ذكر الأخبار المأثورة في إثبات المحتجب عن أبصار بريته قبل اليوم الذي يجزي الله كل نفس ما كسبت، وذكر اختصاص الله نبيه رؤية النبي صلى الله عليه وسلم خالقه العزيز العليم محمدا صلى الله عليه وسلم بالرؤية، كما خص إبراهيم -عليه السلام- بالخلة من بين جميع الرسل والأنبياء جميعا، وكما خص نبيه موسى بالكلام خصوصية خصه الله بها من بين جميع الرسل، وخص الله كل واحد منهم بفضيلة وبدرجة سنية؛ كرما منه وجودا، كما أخبرنا عز وجل في محكم تنزيله في قوله: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات [البقرة: 253].
ثم اشتمل حديث عن هشام الدستوائي، عن قتادة، عكرمة، عن قال: «أتعجبون أن تكون الخلة ابن عباس لإبراهيم [ ص: 293 ] والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين، وذكر حديث الحكم عن عكرمة، الذي فيه صورة شاب.