الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
قال: وروى المعارض أيضا عن عبد الله بن صالح، عن [ ص: 245 ] معاوية بن صالح عن أبي يحيى، عن أبي يزيد، عن أبي سلام، عن ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني ربي في أحسن صورة، فقال: يا محمد! فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت: لا علم لي يا رب، فوضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله على صدري، فتجلى لي ما بين السماء والأرض» فادعى المعارض أن هذا يحتمل أن يأتي ربي من خلقه بأحسن صورة فأتتني تلك الصورة وهي غير الله، والله فيها مدبر، فوضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله في صدري، يعني تلك الصورة التي هي من خلقه والأنامل لتلك الصورة منسوبة إلى الله على معنى أن الخلق كله لله .

[ ص: 246 ] فيقال لهذا المعارض: كم تدحض في بولك وترتطم فيما ليس لك به علم! أرأيتك إذا ادعيت أن هذه كانت صورة من خلق الله سوى الله أتته فقال: هل تدري يا محمد فيما يختصم الملأ الأعلى، أفتتأول على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أجاب صورة غير الله، فقال لها: يا رب لا أدري، فدعاها ربا دون الله أم أتته صورة مخلوقة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أتأني ربي؟! إن هذا لكفر عظيم، ادعيته على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرأيت صورة تضع أناملها وكفها في كتف النبي صلى الله عليه وسلم فيتجلى له بذلك ما بين السماء والأرض غير الله؟! ففي دعواك ادعيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أقر بالربوبية لصورة مخلوقة غير الله؛ لأن في روايتك أن الصورة قالت له: (هل تدري يا محمد) فقال لها: (لا يا رب) وهل يمكن أن تكون صورة مخلوقة قالت له: (هل تدري يا محمد؟) فقال لها: (لا يا رب)؟! وهل ممكن أن تكون صورة مخلوقة تضع أناملها في كتف [ ص: 247 ] نبي مثل محمد صلى الله عليه وسلم فيتجلى له بذلك ما بين السماء والأرض، أمور لم يكن يعرفها قبل أن تضع تلك الصورة كفها بين كتفيه!! ويحك! لا يمكن هذا جبريل ولا ميكائيل ولا إسرافيل، ولا يمكن هذا غير الله، فكم تجلب على نفسك من الجهل والخطأ! وتتقلد من تفاسير الأحاديث الصعبة ما لم يرزقك الله معرفتها، ولا تأمن من أن يجرك ذلك إلى الكفر، كالذي تأولت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن صورة مخلوقة كلمته، فأجابها محمد صلى الله عليه وسلم (يا رب) أم لله صورة لم يعرفها، فقال: (أتاني ربي) لما أن الله في تلك الصورة مدبر، ففي دعواك يجوز لك كلما رأيت كلبا أو حمارا أو خنزيرا قلت: هذا ربي لما أن الله مدبر في صورهم في دعواك، وجاز لفرعون أن يقول فقال أنا ربكم الأعلى [النازعات: 24] لما أن الله مدبر في صورته بزعمك، وهذا أبطل باطل لا ينجع إلا في أجهل جاهل.

[ ص: 248 ] ويلك! إن تأويل هذا الحديث على غير ما ذهبت إليه؛ لما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي ذر: «إنه لم ير ربه» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن تروا ربكم حتى تموتوا» وقالت عائشة رضي الله عنها: «من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية» وأجمع المسلمون على ذلك مع قول الله تعالى لا تدركه الأبصار [الأنعام: 103] ويعنون أبصار أهل الدنيا، وإنما هذه الرؤيا كانت في المنام، وفي المنام يمكن رؤية الله تعالى على كل حال، وفي كل صورة، كذلك روى معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «صليت ما شاء الله من الليل ثم وضعت جنبي فأتاني ربي في أحسن صورة» فحين وجد هذا لمعاذ كذلك صرفت الروايات التي فيها إلى معاذ، فهذا تأويل هذا الحديث عند أهل العلم لا ما ذهبت إليه [ ص: 249 ] من الجنون والخرافات فزعمت أن الله بعث إلى النبي صورة في اليقظة كلمته فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «يا رب» غير أني أظنك لو دريت أنه يخرجك تأويلك إلى مثل هذه الضلالات لأمسكت عن كثير منها، غير أنك تكلمت على حد الحوار، آمنا من الجواب، غارا أن ينتقد عليك.

التالي السابق


الخدمات العلمية