لكن جرى على عادته أنه لا يحتج إلا بإسناد يكون وحده ثابتا، فإنه كثيرا ما يدخل في الباب الذي يحتج له من الشواهد والاعتبارات أشياء فلا يحتج بها، فما قاله لا ينافي ما اتفق عليه أهل العلم، فثبت [ ص: 330 ] صحة الاحتجاج به من طريقين: ابن خزيمة
أحدهما: من جمع الطرق، لكن لم يسلك هذا. ابن خزيمة
والثاني: من جهة ثبوت الاحتجاج بالكتاب، لكن لم يذهب إلى هذا. ابن خزيمة
ومما يؤيد هذا أن المتن نفسه قد روي من وجوه أخرى عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل حديث الذي تقدم ذكره، وقد رواه ثوبان أيضا، وروي من حديث الخلال قال ابن عمر. حدثنا الخلال: محمد بن عوف، حدثنا أبو اليمان، حدثنا أبو مهدي، عن عن [ ص: 331 ] أبي الزاهرية، أبي شجرة، عن ابن عمر «أن النبي صلى الله عليه وسلم تلبث عن أصحابه في صلاة الصبح حتى تراءى له قرن الشمس أن يطلع، ثم خرج عليهم، فصلى صلاة الصبح، فلما فرغ قال: اثبتوا على مقاعدكم، ثم أقبل عليهم يقول لهم: هل تدرون ما حبسني عنكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إني صليت في مصلاي ما كتب الله لي، فضرب على أذني، وأتاني ربي في أحسن صورة».
وقال أخبرنا الخلال: محمد بن إسماعيل، حدثنا [ ص: 332 ] عن وكيع، عبيد الله بن أبي حميد، عن أبي المليح، عن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبي هريرة «أتاني آت في أحسن صورة، فقال: يا محمد! أتدري فيما يختصم الملأ الأعلى يوم القيامة؟ قلت: لا، فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي، قال: فعرفت كل شيء سألني عنه، قال: نعم، يختصمون في الدرجات والكفارات، قال: وما الدرجات؟ قلت: إسباغ الوضوء في السبرات، والمشي على الأقدام إلى الجمعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلك الرباط. والكفارات: إطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام».
[ ص: 333 ] وقد انقلب في هذا المتن الكفارات بالدرجات؛ فإن الصواب أن تلك الأعمال هي الكفارات وهذه الثانية هي الدرجات، كما سبق في الروايات. وقوله: «أتاني آت في أحسن صورة» يفسره ما رواه أيضا: حدثنا الخلال أحمد بن محمد الأنصاري، حدثنا مؤمل قال: حدثنا عبيد الله بن أبي حميد، عن أبي المليح، عن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبي هريرة فقال: يا «رأيت ربي في منام في أحسن صورة، محمد! قلت: لبيك وسعديك، فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟».
وقال مؤمل: حدثنا حماد بن دليل، حدثنا عن سفيان الثوري، قيس، عن طارق، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
وقال: قرئ على محمد بن إبراهيم الصدري وأنا [ ص: 334 ] أسمع: حدثكم مؤمل، حدثنا عبيد الله بن أبي حميد، عن أبي المليح، عن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبي هريرة فالأشبه أن لفظ «أتاني آت» هو من رواية بعض الرواة بالمعنى، كأنه عدل عن لفظ «ربي» إما خوفا على نفسه أو على المستمع؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا ريب أنه قال ذلك اللفظ كما تواترت به الطرق. «رأيت ربي في منامي في أحسن صورة»
وقد روى هذا الحديث فيما أخرجه وانتقاه من أحاديث الصفات التي لم يضمنها الضعاف، وذكر استفاضة طرقه، واتفاق علماء الشرق والغرب على تبليغه، رواه من حديث الحافظ أبو عبد الله بن منده أبي هريرة وأحاديث وثوبان، ابن عائش، فقال: أخبرنا أبو خيثمة، حدثنا محمد بن إبراهيم بن [ ص: 335 ] كثير، حدثنا مؤمل قال: حدثنا عبيد الله بن أبي حميد، عن أبي المليح، عن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبي هريرة محمد! قلت: لبيك وسعديك، قال: هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا يا رب، فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي» وذكره. «رأيت ربي عز وجل في منامي في أحسن صورة، فقال لي: يا
أخبرنا عبيد الله بن جعفر البغدادي بمصر، حدثنا هارون بن كامل، حدثنا أبو صالح قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن أبي يحيى وهو سليم، عن أبي يزيد، عن أنه سمع أبي سلام الحبشي قال: ثوبان محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا علم لي يا رب، فوضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله في صدري، فتخيل لي ما بين السماء والأرض» وذكر الحديث. «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الصبح فقال: إن ربي عز وجل [ ص: 336 ] أتاني الليلة في أحسن صورة، فقال: يا
أخبرنا الحسن بن يوسف الطرائفي بمصر، حدثنا إبراهيم بن مرزوق، حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا زهير بن محمد، عن يزيد بن يزيد بن جابر، عن خالد بن اللجلاج، عن عبد الرحمن بن عائش، عن بعض أصحاب [ ص: 337 ] النبي صلى الله عليه وسلم الحديث. «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات غداة وهو طيب النفس، مشرق اللون، فقلنا له: فقال ما لي، وأتاني ربي الليلة في أحسن صورة»
قال هكذا رواه الحافظ أبو عبد الله بن منده: زهير، عن يزيد بن يزيد، وزاد في الإسناد رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه الأوزاعي وعبد الرحمن بن جابر وغيرهما، عن خالد بن اللجلاج، ولم يذكروا الرجل في الإسناد.
ثنا محمد بن جعفر بن يوسف وخيثمة بن سليمان، قالا: حدثنا العباس بن الوليد بن مزيد [ ص: 338 ] أخبرني أبي، حدثنا ابن جابر قالا: حدثنا والأوزاعي خالد بن اللجلاج، سمعت عبد الرحمن بن عائش قال: ثم قرأ: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم» وذكر الحديث بمثله. وقال فيه: «فوضع كفه بين كتفي، فوجدت بردها بين ثديي، فعلمت ما بين السماء والأرض» وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض [الأنعام: 75].
قال ورواه الحافظ أبو عبد الله بن منده: أبو سلام عن عبد الرحمن بن عائش، عن مالك بن يخامر، عن قال: وروي هذا الحديث عن عشرة من الصحابة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ونقلها عنهم [ ص: 339 ] أئمة البلدان من أهل الشرق والغرب، وكنت حين كتبت ما كتبته بمكان لا يصل إلي فيه الكتب، وكنت أعلم أن هذا الحديث في جامع معاذ بن جبل لكن لم يكن حاضرا عندي، فلما حضر إلي بعد ذلك وجدته قد تكلم عليه نحوا مما تكلمت، وبين أنه حديث صحيح، وذكر عن الترمذي، أنه حديث صحيح، وأن الصواب هو حديث البخاري معاذ، فروى في التفسير في سورة ص أولا حديث الترمذي عن معمر، أيوب، عن أبي قلابة، عن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابن عباس قال: أحسبه في المنام، قال: كذا في الحديث، فقال: «أتاني الليلة ربي في أحسن صورة» محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: لا، قال: فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي، أو قال في نحري، فعلمت ما في السموات وما في الأرض، قال: يا محمد! هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى، قلت: نعم في الكفارات، والكفارات: المكث في المساجد بعد الصلوات، والمشي [ ص: 340 ] على الأقدام إلى الجمعات والجماعات، وإسباغ الوضوء في المكاره، ومن فعل ذلك عاش بخير، ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه». «يا
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، قال: وفي الباب عن معاذ بن جبل، وعبد الرحمن بن عائش، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روي هذا الحديث عن عن النبي صلى الله عليه وسلم بطوله، وقال: معاذ بن جبل ثم قال: حدثنا «إني نعست فاستثقلت نوما، فرأيت ربي في أحسن صورة، فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى» محمد بن بشار، حدثنا معاذ بن هانئ اليشكري، حدثنا جهضم بن عبد الله [ ص: 341 ] عن عن يحيى بن أبي كثير، زيد بن سلام، عن أبي سلام، عن عبد الرحمن بن عائش الحضرمي، أنه حدثه عن مالك بن يخامر السكسكي، عن قال: معاذ بن جبل محمد! قلت: لبيك رب، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى، قلت: لا أدري، قالها ثلاثا، قال: فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي، فتجلى لي كل شيء وعرفت، فقال: يا محمد! قلت: لبيك ريي، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفارات، قال: ما هن؟ قلت: مشي الأقدام إلى الجمعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء حين الكريهات. قال: ثم فيم؟ قلت: إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة والناس نيام، قال: سل، قلت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون، وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقرب إلى حبك» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ ص: 343 ] «إنها حق فادرسوها، ثم تعلموها». «احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة عن صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس، فخرج سريعا فثوب بالصلاة، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجوز في صلاته، فلما سلم دعا بصوته قال لنا: على مصافكم، كما أنتم، ثم انفتل إلينا، ثم قال: أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة، إني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قدر لي، فنعست في صلاتي حتى استثقلت، فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن [ ص: 342 ] صورة، فقال: يا
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وقال: هذا أصح من حديث الوليد بن الحضرمي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث.
وهذا غير محفوظ، هكذا ذكر الوليد في حديثه عن عبد الرحمن بن عائش، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى بشر بن بكر، عن هذا الحديث بهذا [ ص: 344 ] الإسناد، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عبد الرحمن بن عائش، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أصح، وعبد الرحمن بن عائش لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم رأيت أبا بكر بن أبي عاصم روى هذا الحديث في كتاب السنة من طرق أخرى بعد أن قال: (باب ما ذكر من وأسند قول رؤية نبينا صلى الله عليه وسلم ربه في منامه) ابن عباس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس [الإسراء: 60] قال: هي رؤيا عين رآها النبي صلى الله عليه وسلم، وأسند قول ابن عباس: وما جعلنا الرؤيا التي أريناك عن عبد الملك بن ميسرة، عن عن مصعب بن سعد، معاذ [ ص: 345 ] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى في نومه وفي يقظته فهو حق.