وقال شيخ القراء الحافظ أبو الخير ابن الجزري رحمه الله تعالى: قد رئي أبو لهب بعد موته في النوم فقيل له: ما حالك؟ فقال: في النار إلا أنه يخفف عني كل ليلة اثنين وأمص [ ص: 367 ] من بين إصبعي هاتين ماء بقدر هذا- وأشار لرأسي إصبعيه- وإن ذلك بإعتاقي لثويبة عند ما بشرتني بولادة محمد صلى الله عليه وسلم وبإرضاعها له. فإذا كان أبو لهب الكافر الذي نزل القرآن بذمه جوزي في النار لفرحه ليلة مولد محمد صلى الله عليه وسلم فما حال المسلم الموحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ببشره بمولده وبذل ما تصل إليه قدرته في محبته؟ لعمري إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله جنة النعيم.
وذكر نحوه الحافظ شمس الدين محمد بن ناصر الدين الدمشقي- رحمه الله تعالى- ثم أنشد:
إذا كان هذا كافر جاء ذمه وتبت يداه في الجحيم مخلدا أتى أنه في يوم الاثنين دائما
يخفف عنه بالسرور بأحمدا فما الظن بالعبد الذي كان عمره
بأحمد مسرورا ومات موحدا
قال: وقد ظهر لي تخريجه على أصل صحيح غير الذي ذكره الحافظ، وهو ما رواه عن البيهقي - رضي الله تعالى عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة مع أنه ورد أن جده أنس عبد المطلب عق عنه في سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية، فيحمل ذلك على أن هذا فعله صلى الله عليه وسلم إظهارا للشكر على إيجاد الله تعالى إياه رحمة للعالمين وتشريعا لأمته صلى الله عليه وسلم، كما كان يصلي على نفسه لذلك، فيستحب لنا أيضا إظهار الشكر بمولده صلى الله عليه وسلم بالاجتماع وإطعام الطعام ونحو ذلك من وجوه القربات والمسرات.
وقال في شرح سنن : الصواب أنه من البدع الحسنة المندوبة إذا خلا عن المنكرات شرعا. انتهى. ابن ماجه
ويرحم الله تعالى القائل:
لمولد خير العالمين جلال لقد غشي الأكوان منه جمال
فيا مخلصا في حق أحمد هذه ليال بدا فيهن منه هلال
فحق علينا أن نعظم قدره فتحسن أحوال لنا وفعال
فنطعم محتاجا ونكسو عاريا ونرفد من أضحى لديه عيا.
[ ص: 368 ] فتلك فعال المصطفى وخلاله وحسبك أفعال له وخلال
لقد كان فعل الخير قرة عينه فليس له فيما سواه مجال
يا مولد المختار أنت ربيعنا بك راحة الأرواح والأجساد
يا مولدا فاق الموالد كلها شرفا وساد بسيد الأسياد
لا زال نورك في البرية ساطعا يعتاد في ذا الشهر كالأعياد
في كل عام للقلوب مسرة بسماع ما نرويه في الميلاد
فلذاك يشتاق المحب ويشتهي شوقا إليه حضور ذا الميعاد
أما بعد: فقد تكرر سؤال جماعة من المباركين عن هل له أصل في الشرع أو هو بدعة حدثت في الدين؟ الاجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول ويسمونه المولد:
وقصدوا الجواب عن ذلك مبينا والإيضاح عنه معينا. فقلت وبالله التوفيق: ما أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة، الذين هم القدوة في الدين المتمسكون بآثار الصالحين المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها البطالون، وشهوة نفس اعتنى بها الأكالون، بدليل أنا أدرنا عليه الأحكام الخمسة قلنا: إما أن يكون واجبا، أو مندوبا، أو مباحا، أو مكروها أو محرما. وليس بواجب إجماعا، ولا مندوبا، لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه، وهذا لم يأذن فيه الشرع ولا فعله الصحابة ولا التابعون المتدينون فيما علمت. وهذا جوابي عنه بين يدي الله تعالى إن عنه سئلت. ولا جائز أن يكون مباحا لأن ليس مباحا بإجماع المسلمين، فلم يبق إلا أن يكون مكروها أو حراما وحينئذ يكون الكلام فيه في فصلين والتفرقة بين حالين: أحدهما: أن يعمله رجل من عين ماله لأهله وأصحابه وعياله لا يجاوزون ذلك الاجتماع على أكل الطعام ولا يقترفون شيئا من الآثار. [ ص: 369 ] الابتداع في الدين
فهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة وشناعة إذ لم يفعله أحد من متقدمي أهل الطاعة الذين هم فقهاء الإسلام وعلماء الأنام سرج الأزمنة وزين الأمكنة.
والثاني: أن تدخله الجناية وتشتد به العناية حتى يعطي أحدهم الشيء ونفسه تتبعه وقلبه يؤلمه ويوجعه لما يجد من ألم الحيف، وقد قال العلماء رحمهم الله تعالى: أخذ المال بالحياء كأخذه بالسيف، لا سيما إن انضاف إلى ذلك شيء من الغناء من البطون الملأى بآلات الباطل من الدفوف والشبابات واجتماع الرجال مع الشباب المرد والنساء الغانيات إما مختلطات بهن أو متشرفات والرقص بالتثني والانعطاف والاستغراق في اللهو ونسيان يوم المخاف، وكذلك النساء إذا اجتمعن على انفرادهن رافعات أصواتهن بالتهنيك والتطريب في الإنشاد والخروج في التلاوة والذكر المشروع والأمر المعتاد، غافلات عن قوله تعالى: إن ربك لبالمرصاد وهذا الذي لا يختلف في تحريمه اثنان، ولا يستحسنه ذو المروءة الفتيان، وإنما يحلو ذلك بنفوس موتى القلوب وغير المستقيلين من الآثام والذنوب، وأزيدك أنهم يرونه من العبادات لا من الأمور المنكرات المحرمات. فإنا لله وإنا إليه راجعون، بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ! ولله در شيخنا القشيري رحمه الله تعالى حيث يقول فيما أجازناه:
قد عرف المنكر واستنكر ال معروف في أيامنا الصعبة
وصار أهل العلم في وهدة وصار أهل الجهل في رتبه
حادوا عن الحق فما للذي سادوا به فيما مضى نسبه
فقلت للأبرار أهل التقى والدين لما اشتدت الكربه
لا تنكروا أحوالكم قد أتت نوبتكم في زمن الغربة!
هذا مع أن الشهر الذي ولد فيه صلى الله عليه وسلم وهو ربيع الأول هو بعينه الشهر الذي توفي فيه، فليس الفرح بأولى من الحزن فيه. وهذا ما علينا أن نقول ومن الله تعالى نرجو حسن القبول.
هذا جميع ما أورده الفاكهاني - رحمه الله تعالى- في كتابه المذكور.
وتعقبه الشيخ- رحمه الله تعالى- في فتاويه فقال: أما قوله: لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب ولا سنة فيقال عليه: نفي العلم لا يلزم منه نفي الوجود، وقد استخرج له إمام الحفاظ أبو الفضل بن حجر أصلا من السنة واستخرجت أنا له أصلا ثانيا. قلت: وتقدم ذكرهما.
وقوله بل هو بدعة أحدثها البطالون إلى قوله: «ولا العلماء المتدينون » يقال عليه: إنما [ ص: 370 ]
أحدثه ملك عادل عالم وقصد به التقرب إلى الله تعالى، وحضر عنده فيه العلماء والصلحاء من غير نكير منهم. وارتضاه - رحمه الله تعالى- وصنف له من أجله كتابا، فهؤلاء علماء متدينون رضوه وأقروه ولم ينكروه. ابن دحية
وقوله: «ولا مندوبا لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشرع » يقال عليه: إن الطلب في المندوب تارة يكون بالنص وتارة يكون بالقياس، وهذا وإن لم يرد فيه نص ففيه القياس على الأصلين الآتي ذكرهما.
وقوله: «ولا جائز أن يكون مباحا لأن الابتداع في الدين ليس مباحا بإجماع المسلمين » كلام غير مستقيم لأن البدعة لم تنحصر في الحرام والمكروه، بل قد تكون أيضا مباحة ومندوبة وواجبة. قال النووي - رحمه الله تعالى- في «تهذيب الأسماء واللغات: البدعة في الشرع: هي ما لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي منقسمة إلى حسنة وقبيحة » . وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام- رحمه الله تعالى- في القواعد: البدعة منقسمة إلى واجبة وإلى محرمة ومندوبة ومكروهة ومباحة. قال: والطريق في ذلك أن نعرض البدعة على قواعد الشرع، فإذا دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، أو في قواعد التحريم فهي محرمة، أو الندب فمندوبة، أو المكروه فمكروهة أو المباح فمباحة. وذكر لكل قسم من هذه الخمسة أمثلة منها: إحداث الربط والمدارس وكل إحسان لم يعهد في العصر الأول. ومنها التراويح والكلام في دقائق التصوف وفي الجدل ومنها جمع المحافل للاستدلال في المسائل إن قصد بذلك وجه الله تعالى.
وروى بإسناده في «مناقب البيهقي » عن الشافعي - رحمه الله تعالى- ورضي عنه قال: المحدثات من الأمور ضربان: أحدهما ما أحدث مما يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهذه البدعة الضلالة والثاني: ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا. وهذه محدثة غير مذمومة. وقد قال الشافعي رضي الله تعالى عنه- في قيام شهر رمضان: نعمت البدعة هذه. يعني أنها محدثة لم تكن وإذا كانت ليس فيها رد لما مضى. هذا آخر كلام عمر- . الشافعي
فعرف بذلك منع قول الشيخ تاج الدين : «ولا جائز أن يكون مباحا » إلى قوله: «وهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة » الخ لأن هذا القسم مما أحدث وليس فيه مخالفة لكتاب ولا سنة ولا أثر ولا إجماع، فهي غير مذمومة كما في عبارة وهو من الإحسان الذي، لم يعهد في العصر الأول، فإن إطعام الطعام الخالي من اقتراف الآثام إحسان، فهو من البدع المندوبة كما في عبارة الشافعي ابن عبد السلام.
وقوله: والثاني الخ هو كلام صحيح في نفسه غير أن التحريم فيه إنما جاء من قبل هذه [ ص: 371 ]
الأشياء المحرمة التي ضمت إليه، لا من حيث الاجتماع لإظهار شعار المولد، بل لو وقع مثل هذه الأمور في الاجتماع لصلاة الجمعة مثلا لكانت قبيحة شنيعة، ولا يلزم من ذلك تحريم أصل الاجتماع لصلاة الجمعة وهو واضح. وقد رأينا بعض هذه الأمور يقع في ليال من رمضان عند اجتماع الناس لصلاة التراويح فلا تحرم التراويح لأجل هذه الأمور التي قرنت بها، كلا بل نقول: أصل الاجتماع لصلاة التراويح سنة وقربة وما ضم إليها من هذه الأمور قبيح شنيع.
وكذلك نقول: أصل الاجتماع لإظهار شعائر المولد مندوب وقربة. وما ضم إليه من هذه الأمور مذموم وممنوع. وقوله مع «أن الشهر الذي وقع فيه » الخ. جوابه أن يقال: إن ولادته صلى الله عليه وسلم أعظم النعم علينا ووفاته أعظم المصائب لنا، والشريعة حثت على وقد أمر الشرع بالعقيقة عند الولادة وهي إظهار شكر وفرح بالمولود ولم يأمر عند الموت بذبح ولا غيره، بل نهى عن النياحة وإظهار الجزع، فدلت قواعد الشريعة على أنه يحسن في هذا الشهر إظهار الفرح بولادته صلى الله عليه وسلم دون إظهار الحزن فيه بوفاته صلى الله عليه وسلم وقد قال إظهار شكر النعم والصبر والسكون والكتم عند المصائب. ابن رجب- رحمه الله تعالى- في كتاب «اللطائف » في ذم الرافضة حيث اتخذوا يوم عاشوراء مأتما لأجل قتل رضي الله تعالى عنه- لم يأمر الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتما فكيف بمن هو دونهم؟ الحسين-