الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              ابن مضر

                                                                                                                                                                                                                              مضر بضم الميم وفتح الضاد المعجمة. وهو غير مصروف للعلمية والعدل عن ماضر.

                                                                                                                                                                                                                              لقب بذلك لأنه كان يضير قلب من رآه لحسنه وجماله. وقال القتبي : مشتق من المضيرة، أو من اللبن الماضر. والمضيرة شيء يصنع من اللبن. فسمي مضرا لبياضه.

                                                                                                                                                                                                                              واسمه عمرو. وكنيته أبو إلياس. وأمه سودة بنت عك بن عدنان. وكان يقال له مضر الحمراء، قيل: لأن العرب تسمي الأبيض الأحمر. قاله السهيلي . والذي ذكره ابن جرير والماوردي والزبير والبلاذري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن نزارا أباه لما حضرته الوفاة أوصى بنيه وهم: مضر وربيعة وإياد وأنمار فقال: هذه القبة - لقبة حمراء من أدم - وما [ ص: 290 ] أشبهها من المال لمضر . وهذا الخباء الأسود وما أشبهه لربيعة. وهذه الخادم وكانت شمطاء وما أشبهها لإياد. وهذه البدرة والمجلس لأنمار يجلس فيه وقال البلاذري رحمه الله تعالى إنه أوصى له بحمار وفي ذلك قال الشاعر:

                                                                                                                                                                                                                              نزار كان أعلم إذ تولى لأي بنيه أوصى بالحمار

                                                                                                                                                                                                                              وقال لهم: إذا أشكل عليكم الأمر في ذلك واختلفتم في القسمة فعليكم بالأفعى الجرهمي، وكان بنجران.

                                                                                                                                                                                                                              فلما مات نزار اختلفوا وأشكل عليهم أمر القسمة فتوجهوا إلى الأفعى، فبينما هم في مسيرهم إليه إذ رأى مضر كلأ قد رعى فقال: إن البعير الذي رعى هذا لأعور. فقال ربيعة: وهو أزور. وقال إياد: وهو أبتر. وقال أنمار وهو شرود. فلم يسيروا إلا قليلا حتى لقيهم رجل توضع به راحلته فسألهم عن البعير فقال مضر : أهو أعور؟ قال: نعم. قال ربيعة: أهو أزور؟ قال: نعم.

                                                                                                                                                                                                                              قال إياد: أهو أبتر؟ قال: نعم. قال أنمار: أهو شرود؟ قال: نعم هذه والله صفة بعيري دلوني عليه فحلفوا له أنهم ما رأوه. فلزمهم وقال كيف أفارقكم وأنتم تصفون بعيري بصفته؟ فساروا وسار معهم حتى قدموا نجران فنزلوا بالأفعى الجرهمي، فحاكمهم صاحب الجمل إلى الأفعى وقال: بعيري وصفوا لي صفته ثم قالوا لم نره.

                                                                                                                                                                                                                              فقال لهم الأفعى: كيف وصفتموه ولم تروه؟ فقال له مضر : رأيته يرعى جانبا ويترك جانبا فعرفت أنه أعور. وقال ربيعة: رأيت إحدى يديه ثابتة والأخرى فاسدة الأثر فعلمت أنه أفسدها بشدة وطئه وطلبه لازوراره وقال إياد: عرفت بتره باجتماع بعره ولو كان ذيالا لمصع به. وقال أنمار: عرفت أنه شرود بأنه كان يرعى في المكان الملتف نبته ثم يجوزه إلى مكان أرق منه وأخبث. وحلفوا أنهم ما رأوه. فقال الأفعى: ليسوا بأصحاب بعيرك فاطلبه.

                                                                                                                                                                                                                              ثم سألهم من أنتم؟ فأخبروه فرحب وقال: تحتاجون إلي وأنتم في جزالتكم وصحة عقولكم وآرائكم على ما أرى؟ !.

                                                                                                                                                                                                                              ثم خرج عنهم وأرسل إليهم بطعام فأكلوا وبشراب فشربوا فقال مضر : لم أر خمرا أجود منها لولا أنها نبتت على قبر. وقال ربيعة: لم أر كاليوم لحما أطيب لولا أنه ربي بلبن كلب وقال إياد: لم أر كاليوم رجلا أسرى لولا أنه ليس لأبيه الذي يدعى له. وقال أنمار: لم أر كاليوم كلاما أنفع في حاجتنا. وسمع الأفعى كلامهم فقال: ما هؤلاء الشياطين، ثم أتى أمه فسألها فأخبرته أنها كانت تحت ملك لا يولد له فكرهت أن يذهب الملك فأمكنت رجلا نزل بنا فجئت أنت منه. وقال للقهرماني: الخمر الذي شربنا ما أمرها؟ قال: من حبلة غرستها على قبر أبيك. وسأل الراعي عن اللحم فقال: شاة أرضعناها من لبن كلبة ولم يكن في الغنم غيرها. [ ص: 291 ] فقيل لمضر : من أين عرفت الخمر. فقال: لأني أصابني عطش شديد. وقيل لربيعة من أين علمت اللحم؟ قال لأن لحم الكلب يعلو شحمه بخلاف لحم الشاة فإن شحمها يعلو لحمها.

                                                                                                                                                                                                                              وقيل لإياد: من أين علمت أن نسبي لغير أبي؟ قال: لأنه وضع الطعام ولم تجلس معنا فيكون أصلك دنيئا.

                                                                                                                                                                                                                              فقال: قصوا علي قصتكم. فقصوا عليه ما أوصى به أبوهم وما كان من الاختلاف بينهم. ما أشبه القبة الحمراء من مال فهو لمضر . فصارت إليه الدنانير والإبل، فسمي مضر الحمراء. قال: وما أشبه الخباء الأسود من دابة ومال فهو لربيعة فصارت إليه الخيل وهي دهم. فسمي ربيعة الفرس. قال: وما أشبه الخادم وكانت شمطاء من مال فيه بلق فهو لإياد فصارت الماشية البلق له فقيل إياد الشمطاء. وقضي لأنمار بالدراهم والأرض فساروا من عنده وهم على ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              قال محمد بن السائب فيما رواه البلاذري عنه: ومضر أول من حدا للإبل وكان سبب ذلك أنه سقط من بعيره وهو شاب فانكسرت يده فقال: يا يداه يا يداه فأتت إليه الإبل من المرعى فلما صح وركب حدا، وكان من أحسن الناس صوتا. قال البلاذري : وقيل بل كسرت يد مولى له فصاح فاجتمعت عليه الإبل فوضع الحداء وزاد الناس فيه قال السهيلي وفي الحديث: "لا تسبوا ربيعة ومضر فإنهما كانا مؤمنين".

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن حبيب بسند جيد عن سعيد بن المسيب مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبوا مضر فإنه كان على ملة إبراهيم " ورواه الزبير والبلاذري بسند جيد عن الحسن مرسلا مثله. ورواه البلاذري عن عبيد الله بن خالد مرسلا نحوه.

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن حبيب بسند جيد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: مات أدد والد عدنان، وعدنان، ومعد، وربيعة، ومضر ، وقيس عيلان وتيم وأسد وضبة وخزيمة على الإسلام على ملة إبراهيم صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                              ومما يؤثر من حكم مضر : من يزرع شرا يحصد ندامة، وخير الخير أعجله، فاحملوا أنفسكم على مكروهها فيما يصلحكم، واصرفوها عن هواها فيما أفسدها، فليس بين الصلاح والفساد إلا صبر فواق.

                                                                                                                                                                                                                              الفواق: قال في الصحاح ما بين الحلبتين من الوقت، لأنها تحلب ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل لتدر ثم تحلب. [ ص: 292 ] وله من الولد إلياس بالمثناة التحتية، والناس بالنون. قال الوزير المغربي: بتشديد السين المهملة، وهو عيلان بعين مهملة فمثناة تحتية. قال البلاذري : حضنه غلام لمضر يقال له عيلان فسمي به، فقيل لابنه قيس بن عيلان بن مضر وهو قيس بن الناس وأمهما الرباب .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الجواني: قولهم قيس المراد به من ولد قيس بن عيلان بن مضر قال: ومن العلماء من يقول إن عيلان كان حاضنا لقيس وليس بابن. فتقول قيس عيلان بن مضر فتضيفه إليه كما قيل في قضاعة سعد هذيم. وهذيم حاضنه. والأول أصح وهذه روايتنا عن شيوخنا.

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية