الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الباب الحادي عشر فيما وجد من صورة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مقرونة بصور الأنبياء قبله صلى الله عليه وسلم

                                                                                                                                                                                                                              روى البيهقي وأبو نعيم عن هشام بن العاص رضي الله تعالى عنه قال: بعثت أنا ورجل من قريش زمن أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام، فخرجنا حتى قدمنا الغوطة، يعني دمشق، فنزلنا على جبلة بن الأيهم الغساني ، فدخلنا عليه وإذا هو على سرير له، فأرسل إلينا برسول نكلمه، فقلنا: والله إنا لا نكلم رسولا إنما بعثنا إلى الملك فإن أذن لنا كلمناه وإلا لم نكلم الرسول. فرجع إليه الرسول فأخبره فأذن، فكلمه هشام ودعاه إلى الإسلام وإذا عليه ثياب سود، فقال له هشام: ما هذه الثياب التي عليك؟ قال: لبستها وحلفت أن لا أنزعها حتى أخرجكم من الشام. فقلنا: ومجلسك هذا والله لنأخذنه منك ولنأخذن ذلك الملك الأعظم إن شاء الله تعالى، أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم. [قال:

                                                                                                                                                                                                                              فأنتم إذا السمراء. قلنا: السمراء؟] قال لستم بهم هم قوم يصومون بالنهار ويفطرون بالليل، فكيف صومكم؟ فأخبرناه فملئ وجهه سوادا فقال: قوموا. وبعث معنا رسولا إلى الملك، فخرجنا حتى إذا جاء بقرب المدينة قال الذين أرسلهم معنا: إن دوابكم هذه لا تدخل المدينة فإن شئتم حملناكم على براذين أو بغال. فقلنا: والله لا ندخل إلا عليها. فأرسلوا إلى الملك بذلك بأنهم يأبون. فدخلنا على رواحلنا متقلدين سيوفنا حتى انتهينا إلى غرفة له فأنخنا في أصلها وهو ينظر إلينا، فقلنا: لا إله إلا الله والله أكبر. فلقد تنفضت الغرفة حتى صارت كأنها عذق تعصفه الرياح. ثم دخلنا عليه فقال: ما كان عليكم لو جئتموني بتحيتكم فيما بينكم؟

                                                                                                                                                                                                                              قلنا: إن تحيتنا فيما بيننا لا تحل لك وتحيتك التي أنت بها لا يحل لنا أن نحييك بها. قال:

                                                                                                                                                                                                                              كيف تحيتكم؟ قلنا: السلام. قال: كيف تحيون ملككم. قلنا: بها. قال: وكيف يرد عليكم؟

                                                                                                                                                                                                                              قلنا: بها. قال: فما أعظم كلامكم؟ قلنا: لا إله إلا الله والله أكبر. فلما تكلمنا بها تنفضت الغرفة حتى رفع رأسه إليها. قال: فهذه الكلمة التي قلتموها حيث تنفضت الغرفة كلما [ ص: 136 ] قلتموها في بيوتكم تنفضت هكذا؟ قلنا: لا. وما رأيناها فعلت هذا قط إلا عندك. قال: وددت أنكم كلما قلتم تنفض عليكم كل شيء وأني خرجت من نصف ملكي قلنا لم؟ قال: لأنه كان أيسر لشأنها وأجدر أن لا يكون من أمر النبوة وأن يكون من حيل الناس.

                                                                                                                                                                                                                              ثم سألنا عما أراده فأخبرناه. قال: قوموا. فقمنا فأمر لنا بمنزل حسن ونزل كثير، فأقمنا ثلاثا ثم أرسل إلينا ليلا فدخلنا عليه فاستعاد قولنا فأعدناه ثم دعا بشيء كهيئة الربعة العظيمة مذهبة فيها بيوت صغار عليها أبواب، ثم فتح بابا فاستخرج حريرة سوداء فنثرها فإذا فيها صورة حمراء وإذا فيها رجل ضخم العينين عظيم الأليتين لم أر مثل طول عنقه وإذا ليست له لحية وإذا له ضفيرتان أحسن ما خلق الله تعالى. فقال: أتعرفون هذا؟ فقلنا: لا. قال: هذا آدم عليه الصلاة والسلام وإذا هو أكثر الناس شعرا، ثم فتح بابا آخر واستخرج منه حريرة سوداء وإذا فيها صورة بيضاء وإذا فيها رجل ذو شعر كشعر القطط أحمر العينين ضخم القامة حسن اللحية قال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا نوح. ثم فتح بابا آخر واستخرج منه حريرة سوداء وإذا فيها رجل شديد البياض حسن العينين صلت الجبين طويل الخدين أبيض اللحية كأنه يتبسم، فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا إبراهيم. ثم فتح بابا آخر واستخرج منه حريرة سوداء وإذا فيها صورة بيضاء وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: نعم، هذا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بكينا. فو الله لقد قام لها قائما ثم جلس وقال: والله إنه لهو؟ قلنا: نعم إنه لهو. فأمسك ساعة ثم قال: أما إنه آخر البيوت، ولكن عجلته لأنظر أتعرفون ذلك أم لا. ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء فإذا فيها صورة أدماء شحماء وإذا رجل جعد قطط غائر العينين حديد النظر عابس متراكب الأسنان مقلص الشفة كأنه غضبان. فقال: أتعرفون هذا؟

                                                                                                                                                                                                                              قلنا: لا. قال: هذا موسى ابن عمران. وإلى جنبه صورة تشبهه إلا أنه مدهان الرأس عريض الجبين في عينيه قبل، قال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا هارون. ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فإذا فيها صورة رجل سبط آدم ربعة كأنه غضبان. فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا لوط. ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة فإذا فيها صورة رجل مشرب بحمرة أقنى الأنف خفيف العارضين حسن الوجه. قال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال:

                                                                                                                                                                                                                              هذا إسحاق، ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فإذا فيها صورة تشبه إسحاق إلا أنه على شفتيه خال. فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا يعقوب ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء فإذا فيها صورة رجل أبيض حسن الوجه أقنى الأنف حسن القامة يعلو وجهه نور يعرف في وجهه الخشوع يقرب إلى الحمرة. فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا إسماعيل جد نبيكم، ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء فإذا فيها صورة كأنها صورة آدم كأن وجهه الشمس فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال هذا يوسف عليه الصلاة والسلام. [ ص: 137 ]

                                                                                                                                                                                                                              ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فيها صورة رجل أحمر حمش الساقين أخفش العينين ضخم البطن ربعة متقلد سيفا قال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا داود. ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فإذا فيها صورة رجل متخم الأليتين طويل الرجلين راكب فرسا، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا سليمان عليه السلام ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء فيها صورة بيضاء وإذا رجل شاب شديد سواد اللحية كثير الشعر حسن الوجه فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: عيسى ابن مريم. قلنا: من أين لك هذه الصور لأنا نعلم أنها صورت على ما صورت عليه الأنبياء لأنا رأينا صورة نبينا صلى الله عليه وسلم مثله فقال: إن آدم صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده فأنزل عليه صورهم وكانت في خزانة آدم عند مغرب الشمس فاستخرجها ذو القرنين فدفعها إلى دانيال.

                                                                                                                                                                                                                              ثم قال: أما والله وددت أن نفسي طابت بالخروج من ملكي وإني كنت عبدا لأشركم ملكة حتى أموت. ثم أجازنا فأحسن جائزتنا وسرحنا.

                                                                                                                                                                                                                              فلما أتينا أبا بكر رضي الله تعالى عنه أخبرناه بما رأيناه وبما قال لنا فبكى أبو بكر وقال:

                                                                                                                                                                                                                              مسكين! لو أراد الله تعالى به خيرا لفعل. ثم قال: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اليهود يجدون نعت محمد صلى الله عليه وسلم عندهم.

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن عساكر نحوه عن دحية - رضي الله تعالى عنه- وذكر ابن ظفر في «خير البشر» نحوه عن حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه.

                                                                                                                                                                                                                              وروى البخاري في التاريخ والبيهقي عن جبير بن مطعم - رضي الله تعالى عنه- قال: [ ص: 138 ] لما بعث الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وظهر أمره بمكة. خرجت إلى الشام فلما كنت ببصرى أتتني جماعة من النصارى فقالوا: أمن الحرم أنت؟ قلت: نعم. قالوا: أفتعرف هذا الذي تنبأ فيكم؟

                                                                                                                                                                                                                              قلت: نعم. قال: فأخذوا بيدي وأدخلوني ديرا فيه تماثيل وصور فقالوا: انظر هل ترى صورته؟

                                                                                                                                                                                                                              فنظرت فإذا أنا بصورة النبي صلى الله عليه وسلم وإذا أنا بصفة أبي بكر وصورته وهو آخذ بعقب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هل ترى صفته؟ قلت: نعم. قالوا: هو هذا، وأشاروا إلى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت:

                                                                                                                                                                                                                              اللهم نعم، أشهد أنه هو. قالوا: أتعرف هذا الذي أخذ بعقبه؟ قلت: نعم. قالوا: نشهد أن هذا صاحبكم وأن هذا الخليفة من بعده .

                                                                                                                                                                                                                              تفسير الغريب

                                                                                                                                                                                                                              تنفضت الغرفة بالفاء والضاد المعجمة: أي تحركت.

                                                                                                                                                                                                                              صلت الجبين : أي واسعه. وقيل: الصلت: الأملس. وقيل: البارز. قاله في النهاية.

                                                                                                                                                                                                                              وفي الصحاح: هو الواضح.

                                                                                                                                                                                                                              وصورة أدماء: أي سمراء. شحماء: سوداء. وشعر جعد: ضد السبط، فإن وصف بالقطط بفتحتين فهو شديد الجعودة كشعر السودان.

                                                                                                                                                                                                                              وفي عينيه قبل: بفتح القاف والباء وهو إقبال السواد على الأنف. وشعر رجل بفتح الراء وكسر الجيم وفتحها وسكونها. وسبط بفتح أوله وسكون ثانيه وكسره وفتحه: هو المسترسل.

                                                                                                                                                                                                                              وربعة: براء مفتوحة وموحدة ساكنة: أي مربوع الخلق لا قصير ولا طويل.

                                                                                                                                                                                                                              وحمش الساقين : بحاء مهملة وشين معجمة دقيقهما. وأخفش العينين: صغيرهما.

                                                                                                                                                                                                                              والله أعلم.

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية