الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              المرة السابعة: عمارة قصي بن كلاب

                                                                                                                                                                                                                              نقله الزبير بن بكار في كتاب النسب، وجزم به الإمام أبو إسحاق الماوردي في الأحكام السلطانية.

                                                                                                                                                                                                                              المرة الثامنة: عمارة قريش

                                                                                                                                                                                                                              وستأتي.

                                                                                                                                                                                                                              المرة التاسعة: عمارة عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما

                                                                                                                                                                                                                              عن عائشة - رضي الله تعالى عنها- إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: «ألم تري أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟» فقلت: يا رسول الله ألا تردها على قواعد إبراهيم؟

                                                                                                                                                                                                                              فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا حدثان قومك بالكفر»
                                                                                                                                                                                                                              .

                                                                                                                                                                                                                              فقال عبد الله بن عمر- رضي الله تعالى عنهما- لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين الشاميين اللذين يليان الحجر، إلا لأن البيت لم يتم على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                              وفي رواية قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا حداثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة وأعدتها على بناء إبراهيم، فإن قريشا اقتصرت بناءه، وجعلت له خلفا» .

                                                                                                                                                                                                                              قال هشام: يعني بابا. [ ص: 165 ]

                                                                                                                                                                                                                              متفق عليه .

                                                                                                                                                                                                                              وفي رواية للبخاري: لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت ما خرج منه وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين: بابا شرقيا وبابا غربيا، فبلغت به أساس إبراهيم.

                                                                                                                                                                                                                              فذلك الذي حمل ابن الزبير على هدمه. قال يزيد- هو ابن رومان : وشهدت ابن الزبير حين هدمه وبناه فأدخل فيه من الحجر، وقد رأيت أساس إبراهيم حجارة كأسنمة الإبل.

                                                                                                                                                                                                                              قال جرير بن أبي حازم : فقلت له- يعني ليزيد بن رومان: أين موضعه؟ قال: أريكه الآن. فدخلت مع الحجر فأشار إلى مكان وقال: هاهنا. قال جرير: فحزرت من الحجر ستة أذرع أو نحوها.

                                                                                                                                                                                                                              وفي رواية عن سعيد بن مينا قال: سمعت عبد الله بن الزبير يقول: حدثتني خالتي- يعني عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقها بالأرض ولجعلت لها بابين: بابا شرقيا وبابا غربيا، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر، فإن قريشا اقتصرتها حيث بنت الكعبة» .

                                                                                                                                                                                                                              ولمسلم عن عطاء بن أبي رباح- رحمه الله تعالى- قال: لما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاها أهل الشام فكان من أمره ما كان، تركه ابن الزبير حتى قدم الناس الموسم يريد أن يحربهم على أهل الشام، فلما صدر الناس قال: يا أيها الناس أشيروا علي في الكعبة أنقضها ثم أبني بناءها أو أصلح ما وهى منها؟ قال ابن عباس: إني قد فرق لي فيها رأي أن تصلح ما وهى منها وتدع بيتا أسلم عليه الناس، وأحجارا أسلم عليها الناس وبعث عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال ابن الزبير: لو كان أحدكم احترق بيته ما رضي حتى يجدده فكيف ببيت ربكم؟ وإني مستخير ربي ثلاثا ثم عازم على أمري. فلما مضى الثلاث أجمع أمره على [ ص: 166 ] أن ينقضوها فتحاماها الناس أن ينزل بأول الناس يصعد فيها أمر من السماء، حتى صعد رجل فألقى منه حجارة، فلما لم يره الناس أصابه شيء تابعوه، فنقضوه حتى بلغوا به الأرض، فجعل ابن الزبير أعمدة فستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤه.

                                                                                                                                                                                                                              قال السهيلي، رحمه الله تعالى: وطاف الناس بتلك الأستار فلم تخل من طائف حتى لقد ذكر أن يوم قتل ابن الزبير اشتدت الحرب واشتغل الناس فلم ير طائف يطوف بالكعبة إلا جمل يطوف بها. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن الزبير: إني سمعت عائشة تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لولا أن الناس حديث عهدهم بكفر وليس عندي من النفقة ما أنفق على بنيانه لكنت أدخلت فيه من الحجر خمسة أذرع، وجعلت له بابا يدخل الناس منه وبابا يخرج الناس منه»

                                                                                                                                                                                                                              قال: فأنا اليوم أجد ما أنفق، ولست أخاف الناس. قال: فزاد فيه خمسة أذرع حتى أبدى أساسا نظر الناس إليه فبنى عليه البنيان.

                                                                                                                                                                                                                              وكان طول الكعبة ثمانية عشر ذراعا، فلما زاد فيه استقصره فزاد في طوله عشرة أذرع، وجعل له بابين: أحدهما يدخل منه، والآخر يخرج منه.

                                                                                                                                                                                                                              فلما قتل ابن الزبير كتب الحجاج إلى عبد الملك يخبره بذلك ويخبره أن ابن الزبير وضع البناء على أس قد نظر إليه العدول من أهل مكة، فكتب إليه عبد الملك: إنا لسنا من تخليط ابن الزبير في شيء أما ما زاده في طوله فأقره، وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه وسد الباب الذي فتحه. فنقضه وأعاده إلى بنائه.

                                                                                                                                                                                                                              وفي تاريخ مكة للأزرقي، أن ابن الزبير لما هدم الكعبة وسواها بالأرض كشف عن أساس إبراهيم صلى الله عليه وسلم فوجده داخلا في الحجر ستة أذرع وشيئا وأحجار ذلك الأساس كأنها أعناق الإبل، حجارة حمراء آخذ بعضها في بعض مشبكة كتشبيك الأصابع وأصاب فيه قبرا، [ ص: 167 ] فقال: هذا قبر أم إسماعيل صلى الله عليه وسلم، فدعا ابن الزبير خمسين رجلا من وجوه الناس وأشرافهم فأشهدهم على ذلك، وأدخل عبد الله بن مطيع العدوي عتلة كانت بيده في ركن من أركان البيت فزعزعت الأركان كلها وارتجت جوانب البيت ورجفت مكة بأسرها رجفة شديدة وخافوا خوفا شديدا، وطارت من الحجر قطعة فأخذها بيده، فإذا فيها نور مثل نار، فطارت منه برقة فلم يبق دار من دور مكة إلا دخله، ففزعوا، فقال ابن الزبير: اشهدوا. ثم وضع البناء على ذلك الأساس، وجعل لها بابين ملصقين بالأرض، فلما ارتفع البنيان إلى موضع الركن، وكان وقت الهدم قد جعله ابن الزبير في ديباجة وأدخله في تابوت وأقفل عليه وأدخله دار الندوة، وعمد إلى ما كان في الكعبة من حلي وثياب وطيب فوضعه في خزانة الكعبة في دار شيبة بن عثمان، فلما انتهى البناء إلى موضع الحجر أمر فنقر بين حجرين أحدهما من المدماك الذي تحته والآخر من الذي فوقه وطبق ما بينهما.

                                                                                                                                                                                                                              ثم أمر ابن الزبير ابنه عبادا وجبير بن شيبة بن عثمان أن يجعلا الركن في ثوب وقال لهما: إذا فرغتما فكبرا حتى أسمعكما فأخف صلاتي فلما وضعاه في موضعه كبرا فتسامع الناس بذلك. فغضب رجال من قريش لذلك حيث لم يحضرهم ابن الزبير، وقالوا: ما رفعته قريش في الجاهلية حتى حكموا أول من يدخل عليهم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول داخل.

                                                                                                                                                                                                                              وكان الحجر قد انصدع بسبب الحريق فشده ابن الزبير بالفضة. قال ابن عون :

                                                                                                                                                                                                                              فنظرت إلى جوف الحجر حين انفلق كأنه الفضة.

                                                                                                                                                                                                                              وكانت الكعبة يوم هدمها ابن الزبير ثمانية عشر ذراعا في السماء، فلما بلغ البنيان هذا المبلغ قصرت لحال الزيادة في العرض من الحجر، فقال ابن الزبير: قد كانت تسعة أذرع في السماء قبل بناء قريش فزادت قريش تسعة أذرع، وأنا أزيد تسعة أذرع. فجعلها سبعة وعشرين ذراعا في السماء! وهي سبعة وعشرون مدماكا، وعرض جدارها ذراعان. وجعل داخلها ثلاثة دعائم. وكانت قبل ذلك على ست دعائم صفين، وأرسل إلى صنعاء فأتى برخام فجعله في الروازن لأجل الضوء، وجعل لبابها مصراعين طولهما أحد عشر ذراعا، وجعل الباب الآخر بإزائه على هيئته وجعل لها درجا من خشب معوجة يصعد منها إلى ظهرها. فلما فرغ من بنائها [ ص: 168 ] خلقها من داخلها ومن خارجها بالطيب والزعفران وكساها القباطي وقال: من كانت لي عليه طاعة فليخرج فليعتمر من التنعيم، ومن قدر أن ينحر بدنة فليفعل، فإن لم يقدر فشاة، ومن لم يقدر فليتصدق بما تيسر.

                                                                                                                                                                                                                              وأخرج ابن الزبير مائة بدنة، فلما طاف بالبيت استلم الأركان الأربعة جميعا.

                                                                                                                                                                                                                              فلم يزل البيت على بناء ابن الزبير تستلم الأركان كلها، ويدخل من باب ويخرج من باب حتى قتل ابن الزبير وقتل ودخل الحجاج مكة، فكتب إلى عبد الملك بكل ما فعله ابن الزبير. فكتب إليه عبد الملك بن مروان أن اهدم ما زاده فيها من الحجر وردها على ما كانت عليه وسد الباب الغربي الذي فتح واترك سائرها.

                                                                                                                                                                                                                              فكل البيت اليوم على بنيان ابن الزبير، إلا الجدار الذي في الحجر وموضع سد الباب الغربي، فإنه من بنيان الحجاج، وغير تلك الدرج التي في جوفها، ونقص من طول الباب خمسة أذرع.

                                                                                                                                                                                                                              فلما حج عبد الملك قال له الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي : أنا أشهد لابن الزبير بالحديث الذي سمعه من عائشة فقد سمعته أنا أيضا منها. قال: أنت سمعته منها؟

                                                                                                                                                                                                                              قال: نعم، فجعل ينكث بقضيب كان في يده في الأرض ساعة ثم قال: وددت أني كنت تركته وما تحمل.

                                                                                                                                                                                                                              المرة العاشرة: عمارة الحجاج.

                                                                                                                                                                                                                              وتقدم بيانها ذكره السهيلي والنووي رحمهما الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                              قال في شفاء الغرام: وفي إطلاق العبارة بأنه بنى الكعبة تجوز لأنه لم يبن إلا بعضها. [ ص: 169 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية