الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الباب السادس في أخذ الميثاق على النبيين، آدم فمن دونه من الأنبياء أن يؤمنوا به صلى الله عليه وسلم وينصروه إذا بعث فيهم

                                                                                                                                                                                                                              قال الله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                              وإذ نصب بمصدر محذوف أخذ الله ميثاق النبيين عهدهم لما بفتح اللام للابتداء أو دخلت لتوكيد معنى القسم، لأن أخذ الميثاق قسم في المعنى. وبكسرها متعلقة بأخذ، وما موصولة على الوجهين أي الذي آتيتكم وفي قراءة: آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم أي من الكتاب والحكمة، وهو محمد صلى الله عليه وسلم لتؤمنن به ولتنصرنه جواب القسم، أي إن أدركتموه، وأممهم تبع لهم في ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              قال الله تعالى لهم: أأقررتم بذلك وأخذتم قبلتم ووافقتم على ذلكم إصري عهدي قالوا أقررنا. قال فاشهدوا أي فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار.

                                                                                                                                                                                                                              واشهدوا: خطاب للملائكة وأنا معكم من الشاهدين عليكم وعليهم فمن تولى أعرض بعد ذلك الثبات فأولئك هم الفاسقون أي الخارجون عن الطاعة.

                                                                                                                                                                                                                              روى ابن أبي حاتم عن السدي في الآية قال: لم يبعث الله نبيا قط من لدن نوح إلا أخذ ميثاقه ليؤمنن بمحمد صلى الله عليه وسلم وينصره إن أدركه وخرج وهم أحياء.

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن جرير ، عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في الآية قال: لم يبعث الله نبيا، آدم فمن بعده، إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وسلم: لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره بأخذ العهد على قومه.

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: ما بعث الله نبيا قط إلا أخذ عليه العهد:

                                                                                                                                                                                                                              لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره بأخذ الميثاق على أمته إن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه. [ ص: 91 ]

                                                                                                                                                                                                                              رواه البخاري في صحيحه. كما نقله الزركشي في شرح البردة، والحافظ ابن كثير في تاريخه وأول كتابه جامع المسانيد، والحافظ في الفتح في باب حديث الخضر مع موسى، ولم أظفر به فيه، ورواه ابن عساكر بنحوه.

                                                                                                                                                                                                                              قال الإمام العلامة الحافظ شيخ الإسلام تقي الدين السبكي قدس الله سره في هذه الآية من التنويه بالنبي صلى الله عليه وسلم وعظيم قدره ما لا يخفى أنه على تقدير مجيئه في زمانهم يكون مرسلا إليهم. فتكون نبوته ورسالته عامة لجميع الخلق من زمن آدم إلى يوم القيامة وتكون الأنبياء وأممهم كلهم من أمته، ويكون قوله صلى الله عليه وسلم: «بعثت إلى الناس كافة» لا يختص به الناس في زمانه إلى يوم القيامة بل يتناول من قبلهم أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              وإنما أخذ المواثيق على الأنبياء ليعلموا أنه المقدم عليهم وأنه نبيهم ورسولهم. وفي أخذ وهي في معنى الاستخلاف، ولذلك دخلت لام القسم في لتؤمنن به ولتنصرنه لطيفة أخرى، وهي كأنها البيعة التي تؤخذ للخلفاء ولعل أيمان الخلفاء أخذت من هذا، فانظر إلى هذا التعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم من ربه.

                                                                                                                                                                                                                              فإذا عرفت هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم نبي الأنبياء، ولهذا أظهر ذلك في الآخرة جميع الأنبياء تحت لوائه. وفي الدنيا كذلك ليلة الإسراء صلى بهم، ولو اتفق مجيئه في زمن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وجب عليهم وعلى أممهم الإيمان به صلى الله عليه وسلم ونصرته. وبذلك أخذ الله الميثاق عليهم، فنبوته صلى الله عليه وسلم ورسالته إليهم معنى حاصل له. وإنما أمره يتوقف على اجتماعهم معه، فتأخر الأمر راجع إلى وجودهم لا إلى عدم اتصافه بما يقتضيه. وفرق بين توقف الفعل [ ص: 92 ] على قبول المحل وتوقف أهلية الفاعل، فهنا لا توقف من جهة الفاعل ولا من جهة ذات النبي صلى الله عليه وسلم الشريفة، وإنما هو من جهة وجود العصر المشتمل عليه، فلو وجد في عصرهم لزمهم اتباعه بلا شك، ولهذا يأتي عيسى صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان على شريعته صلى الله عليه وسلم، وهو نبي كريم، لا كما يظن بعض الناس أنه يأتي واحدا من هذه الأمة، نعم هو واحد من هذه الأمة لما قلنا من اتباعه للنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما يحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن والسنة، فكل ما فيهما من أمر ونهي فهو متعلق به كما يتعلق بسائر هذه الأمة، وهو نبي كريم على حاله لم ينقص منه شيء ولذلك لو بعث النبي صلى الله عليه وسلم في زمانه أو زمان موسى وإبراهيم ونوح وآدم كانوا مستمرين على نبوتهم ورسالتهم إلى أممهم، والنبي صلى الله عليه وسلم نبي الله ورسوله إلى جميعهم، فنبوته ورسالته أعم وأشمل وأعظم، ويتفق مع شرائعهم في الأصول لأنها لا تختلف، وتقدم شريعته فيما عساه يقع الاختلاف فيه من الفروع، إما على سبيل التخصيص وإما على سبيل النسخ أو لا نسخ ولا تخصيص بل تكون شريعة النبي في تلك الأوقات بالنسبة إلى تلك الأمم مما جاءت به أنبياؤهم، وفي هذا الوقت بالنسبة إلى هذه الأمة الشريفة، والأحكام تختلف باختلاف الأشخاص والأوقات. انتهى كلامه رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

                                                                                                                                                                                                                              فإن قيل: قال الله سبحانه وتعالى: أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده .

                                                                                                                                                                                                                              فالجواب: بأن هداهم من الله وهو شرعه صلى الله عليه وسلم، أي الزم شرعك الذي ظهر به نوابك، من إقامة الدين وعدم التفرقة فيه ولم يقل الله بهم اقتده وكذا قال تعالى: ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وهو الدين، فهو صلى الله عليه وسلم مأمور باتباع الدين، فإن أصل الدين إنما هو من الله تعالى لا من غيره، وأين هذا من قوله صلى الله عليه وسلم: «لو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعني» فأضاف الاتباع إليه، وأمر هو صلى الله عليه وسلم باتباع الدين لا باتباع الأنبياء، فإن السلطان الأعظم إذا حضر لا يبقى لنائب من نوابه حكم إلا له، فإذا غاب حكم النواب بمراسيمه، فهو الحاكم في الحقيقة غيبة وشهادة.


                                                                                                                                                                                                                              فإنك شمس والملوك كواكب إذا ظهرت لم يبد منهن كوكب

                                                                                                                                                                                                                              وقد أشار إلى ذلك المعنى البوصيري ، وتوفي قبل مولد السبكي رحمهما الله تعالى: [ ص: 93 ]

                                                                                                                                                                                                                              وكل آي أتى الرسل الكرام بها     فإنما اتصلت من نوره بهم
                                                                                                                                                                                                                              فإنه شمس فضل هم كواكبها     يظهرن أنوارها للناس في الظلم

                                                                                                                                                                                                                              .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية