الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الباب العاشر في ذكر حرم مكة وسبب تحريمه

                                                                                                                                                                                                                              حرم مكة : ما أحاط بها وأطاف بها من جوانبها، جعل الله تعالى لها حكمها في الحرمة تشريفا لها. قال الإمام النووي - رحمه الله تعالى - في الإيضاح: وحده من طريق المدينة دون التنعيم عند بيوت نفار على ثلاثة أميال من مكة ، ومن طريق اليمن طرف أضاة لبن في ثنية لبن على سبعة أميال. ومن طريق العراق على ثنية جبل بالمقطع على سبعة أميال. ومن طريق الجعرانة في - شعب آل عبد الله بن خالد على تسعة أميال بمثناة فوقية فسين مهملة. وليس في الحدود تسعة بتاء فسين غير هذا الموضع.

                                                                                                                                                                                                                              ومن طريق الطائف على عرفات من بطن نمرة على سبعة أميال، ومن طريق جدة منقطع الأعشاش على عشرة أميال.

                                                                                                                                                                                                                              فهذا حد ما جعله الله تعالى حرما لما اختص به من التحريم وباين بحكمه سائر البلاد وهكذا ذكر حدوده أبو الوليد الأزرقي في كتاب مكة وأصحابنا في كتب الفقه، ومنهم الماوردي في الأحكام السلطانية. إلا أن الأزرقي قال في حده من طريق الطائف: أحد عشر ميلا. والجمهور قالوا: سبعة كما ذكرنا وقال في شفاء الغرام: وتبعه عليه الفاكهي وأبو القاسم عبيد الله بن عبد الله بن خردذابه في كتابه "المسالك" ولا يعرف للأزرقي فيما قاله مخالف قبله ولا معاصر له ولا بعده غير الماوردي وصاحب المهذب ومن تبعهما - رحمهم الله تعالى -.

                                                                                                                                                                                                                              وقد نظم ذلك بعضهم فقال:


                                                                                                                                                                                                                              وللحرم التحديد من أرض طيبة ثلاثة أميال إذا رمت إتقانه     وسبعة أميال عراق وطائف
                                                                                                                                                                                                                              وجدة عشر ثم تسع جعرانه     ومن يمن سبع بتقديم سينها
                                                                                                                                                                                                                              لذلك سيل الحل لم يعد بنيانه

                                                                                                                                                                                                                              يعني أن سيل الحل لا يدخل الحرم، كما ذكره جماعة. قال الأزرقي : إلا من موضع واحد عند التنعيم.

                                                                                                                                                                                                                              التنعيم بفتح المثناة الفوقية وسكون النون وكسر العين المهملة بعدها مثناة تحتية، وهو من الحل. [ ص: 202 ] نفار: بنون مكسورة ففاء فراء. أضاة بفتح الهمزة وبالضاد المعجمة على وزن قناة. لبن بكسر اللام وسكون النون. قاله الحازمي - رحمه الله تعالى -.

                                                                                                                                                                                                                              المقطع ضبطه ابن خليل بضم الميم وفتح الطاء المشددة. وفي خط الطبري، بفتح الميم وإسكان القاف. الجعرانة بكسر الجيم وسكون العين وتخفيف الراء، وتشدد. نمرة بفتح النون وكسر الميم: موضع: قيل من عرفات وقيل بقربها. الجدة بضم الجيم ساحل مكة معروفة سميت بذلك لأنها حاضرة البحر، والجدة من البحر والنهر ما ولي البر، وأصل الجدة: الطريق الممتد. منقطع الأعشاش: بفتح الهمزة وبالشينين المعجمتين جمع عش.

                                                                                                                                                                                                                              قال المحب الطبري في "القرى" في سبب تحديد الحرم واختلاف حدوده أربعة أوجه:

                                                                                                                                                                                                                              الأول: ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال: لما أهبط آدم صلى الله عليه وسلم خر ساجدا معتذرا، فأرسل الله تعالى إليه جبريل بعد أربعين سنة فقال: ارفع رأسك فقد قبلت توبتك. فقال: يا رب إنما أتلهف على ما فاتني من الطواف بعرشك مع ملائكتك. فأوحى الله تعالى إليه: إني سأنزل لك بيتا أجعله قبلة. فأهبط الله تعالى إليه البيت المعمور وكان ياقوتة حمراء تلتهب التهابا، وله بابان شرقي وغربي قد نظمت حيطانه بكواكب بيض من ياقوت الجنة، فلما استقر البيت في الأرض أضاء نوره ما بين المشرق والمغرب، فنفرت لذلك الجن والشياطين وفزعوا، فصعدوا في الجو ينظرون من أين ذلك النور، فلما رأوه من مكة أقبلوا يريدون الاقتراب إليه، فأرسل الله تعالى ملائكة فقاموا حول الحرم في مكان الأعلام اليوم، فمنعتهم، فمن ثم ابتدئ اسم الحرم .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني: ما رواه وهب بن منبه رحمه الله تعالى فقال: إن آدم صلى الله عليه وسلم لما نزل إلى الأرض اشتد بكاؤه، فوضع الله تعالى له خيمة بمكة موضع الكعبة قبل الكعبة ، وكانت الخيمة ياقوتة حمراء من الجنة، فيها ثلاثة قناديل فيها نور يتلهب من الجنة، وكان ضوء النور ينتهي إلى مواضع الحرم ، وحرس الله تعالى تلك الخيمة بملائكة فكانوا يقفون على مواضع أنصاب الحرم يحرسونه ويذودون عنه سكان الأرض من الجن، فلما قبض الله تعالى آدم رفعها إليه.

                                                                                                                                                                                                                              الثالث: روي أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم لما بنى البيت قال لإسماعيل : أبغني حجرا أجعله للناس آية. فذهب إسماعيل ولم يأته بشيء ووجد الركن عنده فقال: من أين لك هذا؟ قال: جاء به من لا يكلني إلى حجرك، جاء به جبريل . فوضعه إبراهيم موضعه هذا، فأنار الحجر شرقا وغربا ويمينا وشمالا، فحرم الله الحرم حيث انتهى إليه نور الحجر وإشراقه من كل جانب.

                                                                                                                                                                                                                              الرابع: إن آدم صلى الله عليه وسلم لما أهبط إلى الأرض خاف على نفسه من الشياطين واستعاذ بالله تعالى، فأرسل الله تعالى ملائكة حفوا بمكة من كل جانب ووقفوا حواليها، فحرم الله تعالى الحرم حيث وقفت الملائكة. انتهى. [ ص: 203 ] وزاد في شفاء الغرام تبعا للسهيلي: وقيل: لأن الله تعالى حين قال للسماوات والأرض، ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين [فصلت: 11] لم يجبه بهذه المقالة من الأرض إلا أرض الحرم ، ولذلك حرمها.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الزركشي رحمه الله تعالى في الإعلام: فإن قيل: ما الحكمة في تحديد الحرم ؟

                                                                                                                                                                                                                              قيل فيه وجوه: أحدها التزام ما ثبت له من الأحكام وتبيين ما اختص به من البركات. الثاني: ذكر أن الحجر الأسود لما أتي به من الجنة كان أبيض مستنيرا أضاء منه نور، فحيثما انتهى ذلك النور كانت حدود الحرم . وهذا معنى مناسب والأمر فوق ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              الثالث: أنه أنوار موضوعة من العالم الأعلى رباني، وسر روحاني، توجه إلى تلك البقاع. ويذكر أهل المشاهدات أنهم يشاهدون تلك الأنوار واصلة إلى حدود الحرم ، ولها منار ينبع منها ويكون عنها في الحرمين والأرض المقدسة.

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية