الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الباب التاسع فيما أخبر به الأحبار والرهبان والكهان بأنه النبي المبعوث في آخر الزمان

                                                                                                                                                                                                                              عن سلمان رضي الله تعالى عنه قال:

                                                                                                                                                                                                                              كنت رجلا من أهل فارس، وفي رواية من أهل جي، وكان أبي دهقان رامهرمز، أي رئيسها، وكان يحبني حبا شديدا، حتى حبسني في البيت كما تحبس الجارية، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار، أي خازنها وخادمها. وفي لفظ: وكان أهل قريتي يعبدون الخيل البلق، فكنت كذلك لا أعلم من أمر الناس شيئا إلا ما أنا فيه، وأعرف أنهم ليسوا على شيء، وكان لي أخ أكبر مني. وفي لفظ: ابن صاحب رامهرمز، فكان إذا قام من مجلسه خرج فتقنع بثوبه ثم صعد الجبل، وكان يفعل ذلك غير مرة متنكرا، فقلت: أما إنك تفعل كذا وكذا، فلم لا تذهب بي معك؟ قال: إنك غلام وأخاف أن يظهر منك شيء. قلت: لا تخف. قال:

                                                                                                                                                                                                                              فإن في هذا الجبل قوما في برطيل لهم عبادة وصلاح، يذكرون الله تعالى ويذكرون الآخرة، ويزعمون أنا عبدة الأوثان والأصنام وعبدة النيران وأنا على غير دين. قلت: فاذهب بي معك.

                                                                                                                                                                                                                              قال: حتى أستأمرهم وأنا أخاف أن يظهر منك شيء فيعلم أبي فيقتلهم فيجري هلاكهم على يدي. قال: قلت لا يظهر مني ذلك. فاستأمرهم. فقالوا جئ به فذهبت معه فانتبهت إليهم فإذا هم ستة أو سبعة، وكأن الروح خرجت منهم من العبادة، يصومون النهار ويقومون الليل يأكلون الشجر وما وجدوا، فقعدنا إليهم فحمدوا الله وأثنوا عليه وذكروا من مضى من الرسل والأنبياء حتى خلصوا إلى عيسى ابن مريم فقالوا: بعثه الله وولد بغير ذكر، بعثه رسولا وسخر له ما كان يفعل من إحياء الموتى وخلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص، فكفر به قوم وتبعه قوم، وإنما كان عبد الله ورسوله ابتلى به خلقه. ثم قالوا: يا غلام إن لك ربا وإن لك معادا، وإن بين يديك جنة ونارا إليها تصير، وإن هؤلاء القوم الذين يعبدون النيران أهل كفر وضلالة لا يرضى الله بما يصنعون، وليسوا على دين.

                                                                                                                                                                                                                              ثم انصرفنا ثم عدنا إليهم فقالوا مثل ذلك وأحسن، فلزمتهم فقالوا لي: يا سلمان إنك غلام، وإنك لا تستطيع أن تصنع ما نصنع، فصل ونم وكل واشرب.

                                                                                                                                                                                                                              قال: فاطلع الملك على صنيع ابنه فركب في الخيل حتى أتاهم في برطيلهم فقال:

                                                                                                                                                                                                                              يا هؤلاء قد جاورتموني فأحسنت جواركم ولم تروا مني سوءا فعمدتم إلى ابني فأفسدتموه علي قد أجلتكم ثلاثا، فإن قدرت عليكم بعد ثلاث أحرقت عليكم برطيلكم هذا، [ ص: 104 ] فالحقوا ببلادكم فإني أكره أن يكون مني إليكم سوء. قالوا: نعم ما تعمدنا مساءتك، وما أردنا إلا الخير.

                                                                                                                                                                                                                              فكف ابنه عن إتيانهم فقلت له: اتق الله، إنك تعرف أن هذا الدين دين الله، وإن أباك ونحن على غير دين، إنما هم عبدة النيران لا يعرفون الله، ولا تبع آخرتك بدنيا غيرك. قال:

                                                                                                                                                                                                                              يا سلمان هو كما تقول، وإنما أتخلف عن القوم بقيا عليهم، إن تبعت القوم طلبني أبي في الخيل، وقد جزع من إتياني إياهم حتى طردهم، وقد أعرف أن الحق في أيديهم. قلت: أنت أعلم.

                                                                                                                                                                                                                              ثم لقيت أخي فعرضت عليه فقال: أنا مشتغل بنفسي في طلب المعيشة. فأتيتهم في اليوم الذي يريدون أن يرتحلوا فيه فقالوا: يا سلمان قد كنا نحذر فكان ما رأيت، فاتق الله واعلم أن الدين ما أوصيناك به، وأن هؤلاء عبدة الأوثان لا يعرفون الله ولا يذكرونه ولا يخدعنك أحد عن ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              وفي رواية: وكان لأبي ضيعة عظيمة فشغل في بنيان له يوما فقال لي: يا بني إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي، ولا بد لي من اطلاعها، فانطلق إليها فمرهم بكذا وكذا ولا تحتبس عني تشغلني عن كل شيء.

                                                                                                                                                                                                                              فخرجت أريد ضيعته فمررت بكنيسة النصارى فسمعت أصواتهم فيها، فقلت ما هذا؟

                                                                                                                                                                                                                              فقالوا: هؤلاء النصارى يصلون. فدخلت أنظر فأعجبني ما رأيت من حالهم، فو الله ما زلت جالسا عندهم حتى غربت الشمس وبعث أبي في طلبي في كل وجه حتى جئته حين أمسيت، ولم أذهب إلى ضيعته، فقال: أين كنت؟ فقلت: يا أبتاه مررت بناس يقال لهم النصارى فأعجبني صلاتهم ودعاؤهم فجلست أنظر كيف يفعلون: فقال: أي بني دينك ودين آبائك خير من دينهم. فقلت: لا والله ما هو بخير من دينهم، وهؤلاء قوم يعبدون الله ويدعونه ونحن إنما نعبد نارا نوقدها بأيدينا إذا تركناها ماتت.

                                                                                                                                                                                                                              فخافني فجعل في رجلي حديدا وحبسني عنده، فبعثت إلى النصارى فقلت لهم: أين أصل هذا الدين الذي أراكم عليه؟ قالوا بالشام. فقلت: إذا قدم عليكم من هناك ناس وقضوا حوائجهم فآذنوني أي أعلموني: فلما قدم عليهم ناس وقضوا حوائجهم بعثوا إلي بذلك فطرحت الحديد الذي كان في رجلي ولحقت بهم.

                                                                                                                                                                                                                              ثم إن الملك اطلع على القوم الذين في الجبل فأمرهم بالخروج من بلاده فقلت: ما أنا بمفارقكم. فقالوا إنك لا تقدر أن تكون معنا نحن نصوم النهار ونقوم الليل ونأكل الشجر وما أصبنا، وأنت لا تستطيع ذلك. قلت: لا أفارقكم. قالوا: أنت أعلم، قد أعلمناك حالنا فإذا جئت. [ ص: 105 ]

                                                                                                                                                                                                                              فاطلب أحدا يكون معك واحمل معك شيئا تأكله، فإنك لن تستطيع ما نستطيع نحن. ففعلت ولقيت أخي فعرضت عليه فأبى، فأتيتهم فتحملوا، فكانوا يمشون وأمشي معهم، فرزق الله السلامة حتى قدمنا الموصل، فأتينا بيعة بالموصل، فلما دخلوا حفوا بهم وقالوا: أين كنتم؟

                                                                                                                                                                                                                              قالوا: كنا في بلاد لا يذكرون الله تعالى عبدة النيران، فطردونا فقدمنا عليكم.

                                                                                                                                                                                                                              فلما كان بعد قالوا: يا سلمان إن ها هنا قوما في هذه الجبال هم أهل دين وإنا نريد لقاءهم فكن أنت ها هنا مع هؤلاء فإنهم أهل دين وسترى منهم ما تحب. قلت: ما أنا بمفارقكم قال: وأوصوا بي أهل البيعة فقال أهل البيعة: أقم معنا يا غلام فإنه لا يعجزك شيء ببيعتنا. قال:

                                                                                                                                                                                                                              قلت ما أنا بمفارقكم. فخرجوا وأنا معهم فأصبحنا بين جبال، فإذا صخرة وماء كثير في جرار وخبز كثير، فقعدنا عند الصخرة، فلما طلعت الشمس خرجوا من بين تلك الجبال: يخرج رجل رجلا من مكانه، كأن الأرواح انتزعت منهم حتى كثروا فرحبوا بهم وحفوا وقالوا: أين كنتم؟ قالوا: كنا ببلاد لا يذكرون الله تعالى، فيها عبدة النار وما يعبدون الله فيها، فطردونا.

                                                                                                                                                                                                                              فقالوا: ما هذا الغلام؟ فطفقوا يثنون علي وقالوا صحبنا من تلك البلاد فلم نر منه إلا خيرا. قال:

                                                                                                                                                                                                                              فو الله إنهم لكذلك إذ طلع عليهم رجل من كهف طوال، فجاء حتى سلم عليهم وجلس فحفوا به وعظمه أصحابي الذين كنت معهم وأحدقوا به، فقال لهم: أين كنتم؟ فأخبروه. فقال: ما هذا الغلام معكم؟ فأثنوا علي خيرا وأخبروه باتباعي إياهم، ولم أر مثل إعظامهم إياه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر من أرسله الله تعالى من رسله وأنبيائه وما لقوا وما صنع بهم حتى ذكر عيسى ابن مريم وأنه ولد بغير ذكر، فبعثه الله رسولا وأجرى على يديه إحياء الموتى وإبراء الأعمى والأبرص، وأنه يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، وأنزل عليه الإنجيل وعلمه التوراة، وبعثه رسولا إلى بني إسرائيل فكفر به قوم وآمن به قوم. وذكر بعض ما لقي عيسى ابن مريم، وأنه إنما كان عبدا أنعم الله عليه فشكره ذلك له ورضي عنه. ثم وعظهم وقال: اتقوا الله والزموا ما جاء به عيسى ولا تخالفوا فيخالف بكم.

                                                                                                                                                                                                                              ثم أراد أن يقوم فقلت: ما أنا بمفارقك فقال: يا غلام إنك لا تستطيع أن تكون معي، إني لا أخرج من كهفي هذا إلا كل يوم أحد. قلت: ما أنا بمفارقك.

                                                                                                                                                                                                                              قال: فتبعته حتى دخل الكهف فما رأيته نائما ولا طاعما، إلا راكعا وساجدا إلى الأحد الآخر، فلما أصبحنا خرجنا واجتمعوا إليه، فتكلم نحو المرة الأولى ثم رجع إلى كهفه ورجعت معه.

                                                                                                                                                                                                                              فلبثت ما شاء الله، يخرج كل يوم أحد ويخرجون إليه ويعظهم، ويوصيهم. فخرج في أحد فقال مثل ما كان يقول ثم قال: يا هؤلاء إني كبرت سني ورق عظمي واقترب أجلي وإنه لا عهد لي بهذا البيت من منذ كذا كذا، ولا بد لي من إتيانه. فقلت: ما أنا بمفارقك. [ ص: 106 ]

                                                                                                                                                                                                                              وخرجت معه حتى انتهيت إلى بيت المقدس فدخل فجعل يصلي، وكان فيما يقول لي: يا سلمان إن الله سوف يبعث رسولا اسمه أحمد يخرج بتهامة، وإنه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة وهذا زمانه الذي يخرج فيه قد تقارب، فأما أنا فإني شيخ كبير ولا أحسبني أدركه، فإذا أدركته أنت فصدقه واتبعه. قلت وإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه؟

                                                                                                                                                                                                                              قال: نعم.

                                                                                                                                                                                                                              ثم خرج من بيت المقدس، وعلى بابه مقعد، فقال: ناولني يدك. فناوله، فقال: قم باسم الله. فقام كأنما نشط من عقال فخلى عن يده، فانطلق ذاهبا وكان لا يلوي على أحد. فقال المقعد: يا غلام احمل علي ثيابي حتى أنطلق. فحملت عليه ثيابه وانطلق الراهب. فكلما سألت عنه قالوا: أمامك فسرت حتى قدمت الشام، فقلت: من أفضل هذا الدين؟ فقيل الأسقف صاحب الكنيسة، فجئته فقلت له: إني أحببت أن أكون معك في كنيستك وأعبد الله فيها معك وأتعلم منك الخير. قال: فكن معي، فكنت معه، وكان رجل سوء، كان يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها حتى إذا جمعوها إليه لم يعطها للمساكين، فأبغضته بغضا شديدا لما رأيت من حاله، فلم ينشب أن مات، فلما جاءوا ليدفنوه قلت لهم: إن هذا كان رجل سوء، كان يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها حتى إذا جمعتموها إليه اكتنزها ولم يعطها للمساكين، فقالوا: وما علامة ذلك؟ قلت: أنا أخرج لكم كنزه. فقالوا: هاته. فأخرجت لهم سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا، فلما رأوا ذلك رجموه بالحجارة وقالوا: لا ندفنه أبدا فصلبوه على خشبة ورموه بالحجارة. وجاءوا برجل آخر فجعلوه مكانه، فلا والله ما رأيت رجلا قط يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه وأشد اجتهادا ولا زهادة في الدنيا، ولا أدأب ليلا أو نهارا منه وما أعلمني أحببت شيئا قط حبه، فلم أزل معه حتى حضرته الوفاة فقلت له يا فلان قد حضرك ما ترى، وإني والله ما أحببت شيئا قط حبك فماذا تأمرني وإلى من توصيني؟ فقال لي: أي بني والله ما أعلمه إلا رجلا بالموصل فائته فإنك ستجده على مثل حالي.

                                                                                                                                                                                                                              فلما مات لحقت بالموصل فأتيت صاحبه فوجدته على مثل حاله من الاجتهاد والزهادة في الدنيا، فقلت له: إن فلانا أوصى بي إليك أن آتيك وأكون معك. فقال: فأقم عندي. فأقمت عنده على مثل أمر صاحبه، حتى حضرته الوفاة فقلت: إن فلانا أوصى بي إليك وقد حضرك من أمر الله ما ترى فإلى من توصيني؟ قال: والله ما أعلمه أي بني إلا رجلا بنصيبين، وهو على مثل ما نحن عليه فالحق به. فلما دفناه لحقت بالآخر فقلت له: يا فلان إن فلانا أوصى بي إلى فلان وفلانا أوصى بي إليك. قال: فأقم عندي فأقمت عنده على مثل حالهم حتى حضرته الوفاة فقلت له: يا فلان إنه قد حضرك من أمر الله ما ترى، وقد كان فلان أوصى بي إلى فلان وأوصى بي فلان إلى فلان، وأوصى بي فلان إليك، فإلى من توصيني. [ ص: 107 ]

                                                                                                                                                                                                                              فقال: أي بني، والله ما أعلم أحدا على مثل ما كنا عليه إلا رجلا بعمورية من أرض الروم ائته فإنك ستجده على مثل ما كنا عليه. فلما مات وواريته خرجت حتى قدمت على صاحب عمورية، فوجدته على مثل حالهم فأقمت عنده واكتسبت حتى كانت لي غنيمة وبقرات، ثم حضرته الوفاة، فقلت: يا فلان إن فلانا أوصى بي إلى فلان، وفلان أوصى بي إلى فلان، وفلان إلى فلان، وفلان إليك وقد حضرك ما ترى من أمر الله تعالى، فإلى من توصيني؟ فقال: أي بني والله ما أعلم بقي أحد على مثل ما كنا عليه آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبي يبعث من الحرم، مهاجره بين حرتين إلى أرض سبخة ذات نخل، وإن فيه علامات لا تخفى: بين كتفيه خاتم النبوة، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، فإن استطعت أن تخلص إلى تلك البلاد فافعل، فإنه قد أظلك زمانه.

                                                                                                                                                                                                                              فلما واريناه أقمت حتى مرت رجال من تجار العرب من كلب، فقلت لهم: احملوني معكم حتى تقدموا بي أرض العرب فأعطيكم غنيمتي هذه وبقراتي؟ قالوا: نعم. فأعطيتهم إياها فحملوني حتى إذا جاءوا بي وادي القرى ظلموني فباعوني عبدا من يهودي بوادي القرى.

                                                                                                                                                                                                                              فو الله لقد رأيت النخل وطمعت أن تكون البلد الذي نعت لي صاحبي، وما خفيت عني، حتى قدم رجل من بني قريظة من يهود بوادي القرى فابتاعني من صاحبي الذي كنت عنده، فخرج بي حتى قدم بي المدينة.

                                                                                                                                                                                                                              وفي لفظ: فاشترتني امرأة من الأنصار فجعلتني في حائط لها. وفي رواية: اسمها خليسة بنت فلان حليف بني النجار.

                                                                                                                                                                                                                              فو الله ما هو إلا أن رأيتها عرفتها، فعرفت نعته فأقمت في رقي مع صاحبي في نخله.

                                                                                                                                                                                                                              وفي رواية أنه مكث كذلك ستة عشر شهرا.

                                                                                                                                                                                                                              قال: فو الله إني لفيها إذ جاء ابن عم له فقال: يا فلان، قاتل الله بني قيلة، فو الله إنهم الآن لفي قباء يجتمعون على رجل جاءهم من مكة يزعمون أنه نبي.

                                                                                                                                                                                                                              فو الله ما هو إلا أن سمعتها فأخذتني العرواء يعني الرعدة حتى ظننت لأسقطن على صاحبي ونزلت أقول: ما هذا الخبر؟ ما هو؟ فرفع مولاي يده فلكمني لكمة شديدة وقال:

                                                                                                                                                                                                                              مالك ولهذا؟ أقبل على عملك. فقلت: لا شيء إلا أنني سمعت خبرا فأحببت أن أعلمه.

                                                                                                                                                                                                                              فخرجت وسألت فلقيت امرأة من أهل بلادي فسألتها، فإذا أهل بيتها قد أسلموا، فدلتني على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمسيت وكان عندي شيء من طعام فحملته وذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء فقلت: بلغني أنك رجل صالح، وأن معك أصحابا غرباء، وقد كان عندي شيء من الصدقة، فرأيتكم أحق من هذه البلاد فها هو ذا فكل. فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم يده

                                                                                                                                                                                                                              وقال: لأصحابه كلوا ولم يأكل.

                                                                                                                                                                                                                              فقلت في نفسي: هذه خلة مما وصف لي صاحبي. [ ص: 108 ]

                                                                                                                                                                                                                              وفي حديث بريدة عند أحمد أن سلمان جاء بمائدة بط وفي رواية: بلحم جزور مثرود وفي رواية: بخلال. فوضعها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذا يا سلمان؟» قال: صدقة عليك وعلى أصحابك. قال: «ارفعها فإنا لا نأكل الصدقة». وجاءه من الغد بمثله فوضعه بين يديه فقال: «ما هذا يا سلمان قال: هدية لك» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «انشطوا» .

                                                                                                                                                                                                                              وذكر ابن إسحاق أنه جاءه بتمر وأخبره بأنه صدقة يأكله.

                                                                                                                                                                                                                              قال: ثم رجعت وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجمعت شيئا كان عندي ثم جئت به فقلت: إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية وليست بصدقة.

                                                                                                                                                                                                                              وفي رواية عند ابن إسحاق قال سلمان: كنت عبدا لامرأة فسألت سيدتي أن تهب لي يوما، فعملت في ذلك اليوم على صاع أو صاعين من تمر، فجئت به النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأيت أنه لا يأكل الصدقة سألت سيدتي أن تهب لي يوما آخر، فعملت فيه على ذلك ثم جئت به هدية للنبي صلى الله عليه وسلم فقبله وأكل منه.

                                                                                                                                                                                                                              وفي الشمائل للترمذي أنه أتى بمائدة عليها رطب.

                                                                                                                                                                                                                              فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: هذه خلتان.

                                                                                                                                                                                                                              ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتبع جنازة رجل من أصحابه وعليه شملتان وهو في أصحابه فاستدرت لأنظر الخاتم الذي في ظهره، فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم استدبرته عرف أني استثبت شيئا قد وصف لي، فرفع رداءه عن ظهره فنظرت إلى الخاتم بين كتفيه كما وصف لي صاحبي، فأكببت عليه أقبله وأبكي، فقال: تحول يا سلمان هكذا فتحولت فجلست بين يديه فأحب أن يسمع أصحابه حديثي. فحدثته بمنزل كلثوم بن الهدم رضي الله تعالى عنه فقال: حدثني. فحدثته.

                                                                                                                                                                                                                              ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأحد.


                                                                                                                                                                                                                              قال النووي رحمه الله تعالى: وأول مشاهده الخندق.

                                                                                                                                                                                                                              قال سلمان: ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: كاتب يا سلمان. فكاتبت على خمسمائة فسيلة .

                                                                                                                                                                                                                              وفي رواية على ثلاثمائة ودية أغرسها بالفقير وأقوم عليها حتى تطعم، وأربعين أوقية وأعانني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخل ثلاثين ودية وعشرين ودية وعشرا كل رجل على قدر [ ص: 109 ] ما عنده. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فقر لها» فإذا فرغت فآذني حتى أكون أنا الذي أضعها بيدي ففقرت لها وأعانني أصحابي حتى فرغنا منها، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنا نحمل إليه الودي ويضعه بيديه ويسوي عليها التراب، فغرسها كلها إلا نخلة واحدة غرستها بيدي.

                                                                                                                                                                                                                              وفي رواية: غرسها عمر. فأطعم النخل كلها من سنته إلا تلك النخلة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

                                                                                                                                                                                                                              «من غرسها» ؟ قالوا: عمر فنزعها وغرسها بيده فحملت من عامها. فو الذي بعثه بالحق ما ماتت منها ودية واحدة.

                                                                                                                                                                                                                              وبقيت علي الدراهم، فأتاه رجل من بعض المعادن بمثل بيضة الحمامة من ذهب،

                                                                                                                                                                                                                              فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذ هذه يا سلمان فأدها عنك دينك» . فقلت: يا رسول الله وأين تقع هذه مما علي؟ فقلبها على لسانه ثم قذفها إلي ثم قال: «انطلق بها، فإن الله سيؤدي بها عنك. فو الذي نفسي بيده لوزنت لهم منها أربعين أوقية من ذهب فأديتها وبقي عندي مثل ما أعطيتهم».


                                                                                                                                                                                                                              رواه الإمام أحمد وابن سعد والبزار والطبراني وأبو نعيم وغيرهم ، من طرق أدخلت بعضها في بعض وسقتها كما تقدم.

                                                                                                                                                                                                                              تنبيهات

                                                                                                                                                                                                                              الأول: في رواية: أن سلمان من فارس. وفي رواية: من أهل إصبهان بكسر الهمزة وفتحها. وفي رواية: أنه من أهل جي بجيم مفتوحة فمثناة تحتية مشددة. وفي رواية: أنه من رامهرمز.

                                                                                                                                                                                                                              والجمع بين هذه الروايات: أن جي مدينة أصبهان، وأنه ولد برامهرمز، وأصله من فارس كما صرح بذلك في رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن كما في تاريخ أبي نعيم ودلائله.

                                                                                                                                                                                                                              الثاني: في رواية: أنه قدم للنبي صلى الله عليه وسلم تمرا. وفي رواية: رطبا. وفي رواية: خلالا بفتح الخاء المعجمة، وهو البلح. وفي رواية: لحم جزور. وفي رواية: لحم بط. وليس بمنكر أن يكون سلمان قدم ذلك إما في مجلس واحد فحدث بهذا مرة وبهذا مرة، وإما في مجالس، كل واحد مما ذكر في مجلس، احتياطا واستظهارا. [ ص: 110 ]

                                                                                                                                                                                                                              الثالث: في بيان غريب ما سبق:

                                                                                                                                                                                                                              الدهقان : بكسر الدال المهملة وضمها: شيخ القرية العارف بالفلاحة وما يصلح الأرض من الشجر، يلجأ إليه في معرفة ذلك وهو معرب.

                                                                                                                                                                                                                              رامهرمز: بفتح الميم الأولى وضم الهاء وفتح الميم الثانية وسكون الراء بعدهما زاي:

                                                                                                                                                                                                                              كورة بالأهواز.

                                                                                                                                                                                                                              البرطيل : بكسر الباء الموحدة: حجر عظيم مستطيل.

                                                                                                                                                                                                                              الأسقف: بالتشديد: عالم النصارى الذي يقيم لهم أمر دينهم، ويقال أسقف بالتخفيف أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              العذق : بفتح العين المهملة وسكون الذال المعجمة: النخلة. وبكسر العين الكباسة بكسر الكاف، وهو عنقود النخلة.

                                                                                                                                                                                                                              بنو قيلة: بفتح القاف فمثناة تحتية ساكنة فلام مفتوحة، هي أم الأوس والخزرج العروراء ، بعين مهملة مضمومة فراء مفتوحة فواو فراء مشددة فألف: الرعدة من البرد والانتفاض. العرقاء: بعين مهملة مضمومة فراء مفتوحة فقاف وألف ممدودة.

                                                                                                                                                                                                                              لكمني: ضربني بجمعه واللكم: شبيه اللكز.

                                                                                                                                                                                                                              الشملة: الكساء الغليظ يشتمل به الإنسان، أي يلتحف به.

                                                                                                                                                                                                                              الرق: العبودية.

                                                                                                                                                                                                                              الفقير: بفاء مفتوحة فقاف مكسورة فياء: اسم لحديقة بالعالية بقرب بني قريظة.

                                                                                                                                                                                                                              وقد خفي ذلك على بعضهم فقال كما نقله أبو الفتح: : قوله: «بالفقير» الوجه: إنما بالتفقير. قال السيد: والصواب بالفقير وهو اسم موضع.

                                                                                                                                                                                                                              الودي: بكسر الدال المهملة وتشديد الياء: فراخ النخل. فقرت: حفرت. [ ص: 111 ]

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن إسحاق رحمه الله تعالى: عن عمر بن عبد العزيز قال: حدثت عن سلمان أن صاحب عمورية قال لسلمان حين حضرته الوفاة: ائت غيضتين من غيض الشام، فإن رجلا يخرج من إحداهما إلى الأخرى في كل سنة ليلة يعترضه ذوو الأسقام فلا يدعو لأحد به مرض إلا شفي، فاسأله عن هذا الذي تسألني عنه.

                                                                                                                                                                                                                              فخرجت حتى أقمت بها سنة حتى خرج تلك الليلة، فأخذت بمنكبه فقلت: رحمك الله [أخبرني عن] الحنيفية دين إبراهيم قال: قد أظلك زمان نبي يخرج عند هذا البيت بهذا الحرم يبعث بذلك الدين.

                                                                                                                                                                                                                              فلما ذكر ذلك سلمان للنبي صلى الله عليه وسلم قال: لئن كنت صدقتني يا سلمان لقد رأيت عيسى بن مريم.

                                                                                                                                                                                                                              غيضتين: الغيضة: الشجر الملتف.

                                                                                                                                                                                                                              قال السهيلي رحمه الله تعالى: وإسناد هذا الحديث مقطوع، وفيه رجل مجهول ويقال هو الحسن بن عمارة ، وهو ضعيف.

                                                                                                                                                                                                                              فإن صح الحديث فلا نكارة في متنه. فقد ذكر الطبراني أن المسيح صلى الله عليه وسلم نزل بعد ما رفع وأمه وامرأة أخرى عند الجذع الذي فيه الصليب تبكيان عليه، فكلمهما وأخبرهما أنه لم يقتل وأن الله تعالى رفعه، وأرسل إلى الحواريين ووجههم إلى البلاد. وإذا جاز أن ينزل مرة جاز أن ينزل مرارا، ولكن لا يعلم أنه هو حتى ينزل النزول الظاهر يكسر الصليب ويقتل الخنزير كما جاء في الصحيح.

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ أبو الخير السخاوي في كتابه: «التحصيل والبيان في سياق قصة السيد سلمان» : وما نقله ابن جرير يحتاج إلى دليل. انتهى. [ ص: 112 ]

                                                                                                                                                                                                                              قلت: ما ذكره ابن جرير رواه في تفسيره عبد بن حميد وابن المنذر من طريق آخر عن وهب بن منبه.

                                                                                                                                                                                                                              وروى البخاري والبيهقي عن سلمان رضي الله تعالى عنه أنه تداوله بضعة عشر ربا من رب إلى رب.

                                                                                                                                                                                                                              ونقل السهيلي عن مصنف حماد بن سلمة رحمه الله تعالى أن الذين صحب سلمان من النصارى كانوا على الحق، على دين عيسى ابن مريم، وكانوا ثلاثين يداولونه سيدا بعد سيد.

                                                                                                                                                                                                                              قال الذهبي رحمه الله تعالى: وجدت الأقوال في سن سلمان كلها دالة على أنه جاوز المائة والخمسين، والاختلاف إنما هو في الزائد. قال: ثم رجعت عن ذلك وظهر لي أنه ما جاوز الثمانين.

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ: لم يذكر مستنده في ذلك، وأظنه أخذه من شهود سلمان الفتوح بعد إعلامه النبي صلى الله عليه وسلم وتزوجه امرأة من كندة وغير ذلك، مما يدل على بقاء بعض النشاط.

                                                                                                                                                                                                                              لكن إن ثبت ما ذكره يكون ذلك من خوارق العادات في حقه، وما المانع من ذلك؟.

                                                                                                                                                                                                                              فقد روى أبو الشيخ في طبقات الأصبهانيين من حديث العباس بن يزيد قال: أهل العلم يقولون: عاش سلمان ثلاثمائة وخمسين سنة فأما مائتين وخمسين فلا يشكون فيها. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية