الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              تنبيه: روى مسلم من طريق حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رجلا قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال: "في النار". فلما قفى دعاه فقال: "إن أبي وأباك في النار".

                                                                                                                                                                                                                              قال الشيخ رحمه الله تعالى في مسالك الحنفا في والدي المصطفى: قوله: "إن أبي وأباك في النار" لم يتفق عليه الرواة، وإنما ذكره حماد بن سلمة ، عن ثابت . وقد خالفه معمر عن ثابت ، فلم يذكر: إن أبي وأباك في النار. ولكن قال له: إذا مررت بقبر كافر فبشره بالنار. [ ص: 248 ] وهذه اللفظة لا دلالة فيها على والده صلى الله عليه وسلم بأمر البتة. وهو أثبت من حيث الرواية. فإن معمرا أثبت من حماد. فإن حمادا تكلم في حفظه، ووقع له أحاديث مناكير ذكروا أن ربيبه دسها في كتبه. وكان حماد لا يحفظ فحدث بها فوهم. ومن ثم لم يخرج له البخاري شيئا، ولا أخرج له مسلم في الأصول إلا من روايته عن ثابت .

                                                                                                                                                                                                                              وقد قال الحاكم في المدخل: ما خرج مسلم لحماد في الأصول إلا من حديثه عن ثابت وقد أخرج له في الشواهد عن طائفة، وأما معمر فلم يتكلم في حفظه ولا استنكر شيء من حديثه واتفق على التخريج له الشيخان فكان لفظه أثبت.

                                                                                                                                                                                                                              ثم وجدنا الحديث ورد من حديث سعد بن أبي وقاص بمثل رواية معمر ، عن ثابت ، عن أنس .

                                                                                                                                                                                                                              فروى البزار والطبراني والبيهقي من طريق إبراهيم بن سعد، عن الزهري ، عن عامر ابن سعد، عن أبيه، أن أعرابيا، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أين أبي؟ قال: في النار. قال: فأين أبوك؟ قال: "حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار".

                                                                                                                                                                                                                              وهذا الإسناد على شرط الشيخين. فتعين الاعتماد على هذا اللفظ وتقديمه على غيره.

                                                                                                                                                                                                                              وقد زاد الطبراني والبيهقي في آخره قال: فأسلم الأعرابي بعد وقال: لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعبا! ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار.

                                                                                                                                                                                                                              وقد روى ابن ماجه عن طريق إبراهيم بن سعد، عن الزهري عن سالم ، عن أبيه قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي كان يصل الرحم وكان. فأين هو؟ قال: "في النار". قال: فكأنه وجد من ذلك فقال: يا رسول الله، فأين أبوك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حيثما مررت بقبر مشرك فبشره بالنار". قال: فأسلم الأعرابي بعد وقال لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعبا! ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار.

                                                                                                                                                                                                                              قال الشيخ رحمه الله تعالى: فهذه الزيادة أوضحت بلا شك أن هذا اللفظ العام هو الذي صدر منه صلى الله عليه وسلم ورآه الأعرابي بعد إسلامه أمرا مقتضيا للامتثال، فلم يسعه إلا امتثاله، ولو كان الجواب باللفظ الأول لم يكن فيه أمر بشيء البتة. فعلم أن اللفظ الأول من تصرف الراوي، رواه بالمعنى على حسب فهمه.

                                                                                                                                                                                                                              وقد وقع في الصحيحين روايات كثيرة من هذا النمط فيها لفظ تصرف فيه الراوي، وغيره أثبت منه. كحديث أنس في نفي قراءة البسملة. وقد أعله الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه بذلك وقال: إن الثابت من طريق آخر نفي سماعها، ففهم منه الراوي نفي قراءتها فرواه بالمعنى على ما فهمه، فأخطأ. [ ص: 249 ] قال الشيخ رحمه الله تعالى: ونحن أجبنا عن حديث مسلم في هذا المقام بنظير ما أجاب به إمامنا الشافعي عن حديث مسلم في نفي قراءة البسملة.

                                                                                                                                                                                                                              ثم رأيت طريقا أخرى للحديث مثل لفظ رواية معمر وأزيد وضوحا. وذلك أنه قد صرح فيه بأن السائل أراد أن يسأل عن أبيه صلى الله عليه وسلم، فعدل عن ذلك تجملا وتأدبا.

                                                                                                                                                                                                                              فروى الحاكم في المستدرك وصححه عن لقيط بن عامر رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله هل أحد ممن مضى منا في جاهليته في خير؟ فقال رجل من عرض قريش: إن أباك المنتفق في النار. فكأنه وقع حر بين جلد وجهي ولحمي مما قال لأبي على رؤوس الناس، فهممت أن أقول: وأبوك يا رسول الله؟ ثم نظرت فإذا الأخرى أجمل، فقلت: وأهلك يا رسول الله؟ فقال: "ما أتيت عليه من قبر قرشي ولا عامري مشرك فقل: أرسلني إليك محمد فأبشرك بما يسوؤك".

                                                                                                                                                                                                                              هذه الرواية لا إشكال فيها، وهي أوضح الروايات وأبينها.

                                                                                                                                                                                                                              ثم لو فرض اتفاق الرواة على اللفظ الأول كان معارضا بالأدلة الآتية في المسلك الأول والحديث إذا عارضه أدلة أخرى هي أرجح منه وجب تأويله وتقديم تلك الأدلة عليه كما هو مقرر في الأصول.

                                                                                                                                                                                                                              تتمة: ثبت في الحديث الصحيح أن أهون أهل النار عذابا أبو طالب، وأنه في ضحضاح من النار في رجليه نعلان من نار يغلي منهما دماغه، وهذا مما يدل على أن أبوي النبي صلى الله عليه وسلم ليسا في النار. لأنهما لو كانا فيها لكانا أهون عذابا من أبي طالب، لأنهما أقرب منه مكانا، وأبسط عذرا، فإنهما لم يدركا البعثة ولا عرض عليهما الإسلام فامتنعا. بخلاف أبي طالب، وقد أخبر الصادق المصدوق أنه أهون أهل النار عذابا. فليس أبواه من أهلها. وهذا يسمى عند أهل الأصول دلالة الإشارة.

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية