( ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد ) لو التي ليست شرطا في المستقبل تقلب المضارع للمضي ، فالمعنى : لو رأيت وشاهدت ، وحذف جواب لو جائز بليغ حذفه في مثل هذا ; لأنه يدل على التعظيم ، أي : لرأيت أمرا عجيبا وشأنا هائلا ، كقوله : ولو ترى إذ وقفوا على النار ، والظاهر أن الملائكة فاعل يتوفى ، ويدل عليه قراءة ابن عامر : ( تتوفى ) ، بالتاء ، وذكر في قراءة غيرهما ; لأن تأنيث الملائكة مجاز ، وحسنه والأعرج الفضل ; وقيل : الفاعل في هذه القراءة الفاعل ضمير الله ، والملائكة مبتدأ ، والجملة حالية ، كهي في يضربون ، قالابن عطية : ويضعفه سقوط واو الحال فإنها في الأغلب تلزم مثل هذا ، انتهى ، ولا يضعفه إذ جاء بغير واو في كتاب الله ، وفي كثير من كلام العرب ، والملائكة ملك الموت ، وذكر بلفظ الجمع تعظيما ، أو هو وأعوانه من الملائكة ، فيكون التوفي قبض أرواحهم ، أو الملائكة الممد بهم يوم بدر ، والتوفي قتلهم ذلك اليوم ، أو ملائكة العذاب فالتوفي سوقهم إلى النار ، أقوال ثلاثة ، والظاهر حقيقة الوجوه والأدبار كناية عن الأستاه . قال مجاهد : وخصا بالضرب ; لأن الخزي والنكال فيهما أشد ; وقيل : ما أقبل منهم وما أدبر فيكون كناية عن جميع البدن ، وإذا كان ذلك يوم بدر ، فالظاهر أن الضاربين هم الملائكة . وقيل : الضمير عائد على المؤمنين ، أي : يضرب المؤمنون : فمن كان أمامهم من المؤمنين ضربوا وجوههم ، ومن كان وراءهم ضربوا أدبارهم ، فإن كان ذلك عند الموت ضربتهم الملائكة بسياط من نار ، وقوله : ذوقوا هذا على إضمار القول من الملائكة ، أي : ويقولون لهم ذوقوا عذاب الحريق ، ويكون ذلك يوم بدر ، وكانت لهم أسواط من نار يضربونهم بها فتشتعل جراحاتهم نارا ، أو يقال لهم ذلك في الآخرة ، وهو كلام مستأنف من الله على سبيل التقريع للكافرين ، إما في الدنيا حالة الموت ، أي : مقدمة عذاب النار ، وإما في الآخرة ، ويحتمل ذلك وما بعده أن يكون من كلام الملائكة ، أو من كلام الله ، ذلك ، أي : ذلك العذاب ، وهو مبتدأ خبره بما قدمت أيديكم ، وأن الله عطف على ما ، أي : ذلك العذاب بسبب كفركم وبسبب أن الله لا يظلمكم ; إذ أنتم مستحقون العذاب ، فتعذيبكم عدل منه ، وتقدم تفسير هذه الجملة في أواخر سورة آل عمران .
( كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب ) [ ص: 507 ] تقدم تفسير نظير هذه الآية في أوائل سورة آل عمران .
( ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم ) ذلك مبتدأ ، وخبره بأن الله لم يك ، أي : ذلك العذاب أو الانتقام بسبب كذا ، وظاهر النعمة أنه يراد به ما يكونون فيه من سعة الحال والرفاهية والعزة والأمن والخصب وكثرة الأولاد ، والتغيير قد يكون بإزالة الذات ، وقد يكون بإزالة الصفات ، فقد تكون النعمة أذهبت رأسا ، وقد تكون قللت وأضعفت ، وقال القاضي : أنعم الله عليهم بالعقل والقدرة وإزالة الموانع وتسهيل السبيل ، والمقصود أن يشتغلوا بالعبادة والشكر ويعدلوا عن الكفر ، فإذا صرفوا هذه الأمور إلى الكفر والفسق فقد غيروا أنعم الله على أنفسهم ، فلا جرم استحقوا تبديل النعم بالنقم والمنح بالمحن ، وهذا من أوكد ما يدل على أنه تعالى لا يبتدئ أحدا بالعذاب والمضرة ، وأن الذي يفعله لا يكون إلا جزاء على معاص سلفت ، ولو كان تعالى خلقهم وخلق حياتهم وعقولهم ابتداء للنار ، كما يقوله القوم لما صح ذلك ، انتهى ، قيل : وظاهر الآية يدل على ما قاله القاضي ، إلا أنه يمكن الحمل على الظاهر ; لأنه يلزم من ذلك أن يكون صفة الله معللة بفعل الإنسان ومتأثرة له ، وذلك محال في بديهة العقل ، وقد قام الدليل على أن حكمه وقضاءه سابق أولا ، فلا يمكن أن يكون فعل إلا بقضائه وإرادته . وقيل : أشار بالنعمة إلى محمد بعثه رحمة فكذبوه ، فبدل الله ما كانوا فيه من النعمة بالنقمة في الدنيا وبالعقاب في الآخرة ، قاله ، والظاهر من قوله : على قوم ، العموم في كل من أنعم الله عليه من مسلم وكافر وبر وفاجر ، وأنه تعالى متى أنعم على أحد فلم يشكر بدله عنها بالنقمة ; وقيل : القوم هنا السدي قريش أنعم الله تعالى عليهم ليشكروا ويفردوه بالعبادة فجحدوا وأشركوا في ألوهيته ، وبعث إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم فكذبوه ، فلما غيروا ما اقتضته نعمة وحدثتهم أنفسهم بأن تلك النعم من قبل أوثانهم وأصنامهم غير تعالى عليهم بنقمة في الدنيا ، وأعد لهم العذاب في العقبى ، وقال ابن عطية : ومثال هذا نعمة الله على قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم فكفروا وغيروا ما كان يجب أن يكونوا عليه ، فغير الله تلك النعمة بأن نقلها إلى غيرهم من الأنصار وأحل بهم عقوبته ، انتهى . وتغيير آل فرعون ومشركي مكة ، ومن يجري مجراهم بأن كانوا كفارا ولم تكن لهم حالة مرضية ، فغيروا تلك الحالة المسخوطة إلى أسخط منها من تكذيب الرسل والمعاندة والتخريب وقتل الأنبياء والسعي في إبطال آيات الله ، فغير الله تعالى ما كان أنعم عليهم به وعاجلهم ولم يمهلهم ، وفي قول - : ذلك العذاب أو الانتقام بسبب أن الله تعالى لم ينبغ له ولم يصح في حكمته أن يغير نعمه عند قوم حتى يغيروا ما بهم من الحال - دسيسة الاعتزال ، وأن الله سميع لأقوال مكذبي الرسول عليم بأفعالهم ، فهو مجازيهم على ذلك . الزمخشري