( كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين ) قال قوم : هذا التكرير للتأكيد ، وقال ابن عطية : هذا التكرير لمعنى ليس للأول ، أو الأول دأب في أن هلكوا لما كفروا ، وهذا الثاني دأب في أن لم يغير نعمتهم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، انتهى ، وقال قوم : كرر لوجوه منها : أن الثاني جرى مجرى التفصيل للأول ; لأن في ذلك ذكر إجرامهم ، وفي هذا ذكر إغراقهم ، وأريد بالأول ما نزل بهم من العقوبة حال الموت ، وبالثاني ما نزل بهم من العذاب في الآخرة ، وفي الأول بآيات الله إشارة إلى إنكار دلائل الإلهية ، وفي الثاني بآيات ربهم إشارة إلى إنكار نعم من رباهم ودلائل تربيته وإحسانه على [ ص: 508 ] كثرتها وتواليها ، وفي الأول اللازم منه الأخذ ، وفي الثاني اللازم منه الهلاك والإغراق ، وقال : في قوله تعالى : بآيات ربهم زيادة دلالة على كفران النعم وجحود الحق ، وفي ذكر الإغراق بيان للأخذ بالذنوب ، وقال الزمخشري الكرماني : يحتمل أن يكون الضمير في الآية الأولى في كفروا عائدا على قريش ، وفي الأخيرة في كذبوا عائد على آل فرعون والذين من قبلهم ، انتهى ; وقيل : فأهلكناهم هم الذين أهلكوا يوم بدر ، فيلزم من هذا القول أن يكون كذبوا عائدا على كفار قريش ، وقال التبريزي : فأهلكناهم : قوم نوح بالطوفان ، وعادا بالريح ، وثمودا بالصيحة ، وقوم لوط بالخسف ، وفرعون وآله بالغرق ، وقوم شعيب بالظلة ، وقوم داود بالمسخ ، وأهلك قريشا وغيرها بعضهم بالفزع ، وبعضهم بالسيف ، وبعضهم بالعدسة كأبي لهب ، وبعضهم بالغدة كعامر بن الطفيل ، وبعضهم بالصاعقة كأويد بن قيس ، انتهى ، فيظهر من هذا الكلام أن الضمير في كذبوا وأهلكناهم عائد على المشبه والمشبه به في كدأب ; إذ عم الضمير القبيلتين ، وإنما خص آل فرعون بالذكر ، وذكر الذي أهلكوا به ، وهو إغراقهم ; لأنه انضم إلى كفرهم دعوى الإلهية والربوبية لغير الله تعالى ، فكان ذلك أشنع الكفر وأفظعه ، ومراعاة لفظ ( كل ) إذا حذف ما أضيف إليه ومعناه جائزة ، واختير هنا مراعاة المعنى لأجل الفواصل ; إذ لو كان التركيب : وكل كان ظالما ، لم يقع فاصلة ، وقال : وكلهم من غرقى القبط وقتلى الزمخشري قريش كانوا ظالمين أنفسهم بالكفر والمعاصي ، انتهى ، ولا يظهر تخصيص كلا بغرقى القبط وقتلى الزمخشري قريش ; إذ الضمير في كذبوا وفي فأهلكناهم لا يختص بهما ، فالذي يظهر عموم المشبه به وهم آل فرعون والذين من قبلهم ، أو عموم المشبه والمشبه بهم .
( الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون ) نزلت في بني قريظة ، منهم كعب بن الأشرف وأصحابه عاهدهم الرسول أن لا يمالئوا عليه فنكثوا بأن أعانوا مشركي مكة بالسلاح وقالوا : نسينا وأخطأنا ، ثم عاهدهم فنكثوا ، مالئوا معهم يوم الخندق ، وانطلق كعب بن الأشرف إلى مكة فحالفهم . قال البغوي : من روى أنه كعب بن الأشرف أخطأ ووهم ، بل يحتمل أنه كعب بن أسد فإنه كان سيد قريظة ; وقيل : هم بنو قريظة والنضير ; وقيل : نفر من قريش من عبد الدار ، حكاه التبريزي في تفسيره ، ( فهم لا يؤمنون ) إخبار منه تعالى أنهم لا يؤمنون فلا يمكن أن يقع منهم إيمان ، قال شر الناس الكفار ، وشر الكفار المصرون منهم ، وشر المصرين الناكثون للعهود ، فأخبر تعالى أنهم جامعون لأنواع الشر ، الذين عاهدت بدل من الذين كفروا ، قاله ابن عباس الحوفي ، وأجاز والزمخشري أبو البقاء أن يكون خبر المبتدأ محذوفا ، وضمير الموصول محذوف ، أي : عاهدتهم منهم ، أي : من الذين كفروا ، قال ابن عطية : يحتمل أن يكون ( شر الدواب ) بثلاثة أوصاف : الكفر ، والموافاة عليه ، والمعاهدة مع النقض ، والذين على هذا بدل بعض من كل ، ويحتمل أن يكون الذين عاهدت فرقة أو طائفة ، ثم أخذ يصف حال المعاهدين بقوله : ثم ينقضون عهدهم في كل مرة ، انتهى ، فعلى هذا الاحتمال يكون الذين مبتدأ ويكون الخبر قوله : ( فإما تثقفنهم ) ، ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى اسم الشرط ، فكأنه قيل من يعاهد منهم ، أي : من الكفار ، فإن تظفر بهم فاصنع كذا ، أو من للتبعيض ; لأن المعاهدين بعض الكفار ، وهي في موضع الحال ، أي : كائنين منهم ; وقيل : بمعنى مع ; وقيل : الكلام محمول على المعنى ، أي : أخذت منهم العهد ، فتكون من على هذا التقدير : لابتداء الغاية ; وقيل : من زائدة ، أي : عاهدتهم ، وهذه الأقوال الثلاثة ضعيفة ، وأتى ثم ينقضون بالمضارع تنبيها على أن من شأنهم نقض العهد مرة بعد مرة ، تقديره : وهم [ ص: 509 ] لا يتقون لا يخافون عاقبة العدو ، ولا يبالون بما في نقض العهد من العار واستحقاق النار .