( قال ياقوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون ) لم يرد النفي منه على لفظ ما قالوه ، فلم يأت التركيب لست في ضلال مبين ، بل جاء في غاية الحسن من نفي أن يلتبس به ، ويختلط ضلالة ما واحدة فأنى يكون في ضلال فهذا أبلغ من الانتفاء من الضلال إذ لم يعتلق به ولا ضلالة واحدة ، وفي ندائه لهم ثانيا والإعراض عن جفائهم ما يدل على سعة صدره والتلطف بهم .
ولما نفى عنهم التباس ضلالة ما به دل على أنه على الصراط المستقيم فصح أن يستدرك كما تقول ما زيد بضال ولكنه مهتد ، فلكن واقعة بين نقيضين ؛ لأن الإنسان لا يخلو من أحد الشيئين : الضلال والهدى ، ولا تجامع ضلالة الرسالة ، وفي قوله : ( من رب العالمين ) تنبيه على أنه ربهم ؛ لأنهم من جملة العالم ، أي : من ربكم المالك لأموركم الناظر لكم بالمصلحة حيث وجه إليكم رسولا يدعوكم إلى إفراده بالعبادة و ( أبلغكم ) استئناف على سبيل البيان بكونه رسولا ، أو جملة في موضع الصفة لرسول ملحوظا فيه بكونه خبرا لضمير متكلم كما تقول أنا رجل آمر معروف ، فتراعي لفظ أنا ، ويجوز يأمر بالمعروف فيراعي لفظ رجل ، والأكثر مراعاة ضمير المتكلم والمخاطب ، فيعود الضمير ضمير متكلم ، أو مخاطب . قال تعالى : ( بل أنتم قوم تفتنون ) بالتاء ولو قرئ بالياء لكان عربيا مراعاة للفظ ( قوم ) ؛ لأنه غائب ، وقرأ أبو عمرو ( أبلغكم ) هنا في الموضعين وفي الأحقاف بالتخفيف ، وباقي السبعة بالتشديد ، والهمزة والتضعيف للتعدية فيه ، وجمع ( رسالات ) باعتبار ما أوحي إليه في الأزمان المتطاولة ، أو باعتبار المعاني المختلفة من الأمر والنهي والزجر والوعظ والتبشير والإنذار ، أو باعتبار ما أوحي إليه وإلى من قبله ، قيل : في صحف إدريس ، وهي ثلاثون صحيفة وفي صحف شيث وهي خمسون صحيفة . وتقدم الكلام في " نصح " وتعديتها ، وقال : وفي زيادة اللام مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة ، وأنها وقعت للمنصوح له مقصودا به جانبه لا غير ، فرب نصيحة ينتفع بها الناصح بقصد النفعين جميعا ولا نصيحة أنفع من نصيحة الله تعالى ورسله ، وقال الزمخشري الفراء : لا تكاد العرب تقول نصحتك إنما نصحت لك ، وقال النابغة :
نصحت بني عوف فلم يتقبلوا
وفي قوله : ( ما لا تعلمون ) إبهام عليهم وهو عام ، ولكن ساق ذلك مساق المعلومات التي يخاف عليهم ولم يسمعوا قط بأمة عذبت فتضمن التهديد والوعيد ، فيحتمل أن يريد ما لا تعلمون من صفات الله وقدرته وشدة بطشه على من اتخذ إلها معه ، أو يريد ما لا تعلمون مما أوحي إلي ، قال ابن عطية : ولا بد أن نوحا - عليه السلام - وكل نبي مبعوث إلى الخلق كانت له معجزة بخرق العادة ، فمنهم من عرفنا بمعجزته ومنهم من لم نعرف ، وما أحسن سياق هذه الأفعال قال أولا : [ ص: 322 ] ( أبلغكم رسالات ربي ) ، وهذا مبدأ أمره معهم وهو التبليغ ، كما قال : إن عليك إلا البلاغ ، ثم قال ( وأنصح لكم ) ، أي : أخلص لكم في تبيين الرشد والسلامة في العاقبة إذا عبدتم الله وحده ، ثم قال وأعلم من الله ما لا تعلمون من بطشه بكم وهو مآل أمركم إذا لم تفردوه بالعبادة فنبه على مبدأ أمره ومنتهاه معهم .( أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون ) يتضمن قولهم ( إنا لنراك في ضلال مبين ) استبعادهم واستمحالهم ما أخبرهم به من خوف العذاب عليهم ، وأنه بعثه الله إليهم بعبادته وحده ورفض آلهتهم وتعجبوا من ذلك ، وقال أبو عبد الله الرازي : سبب استبعادهم إرسال نوح ، والهمزة للإنكار والتوبيخ ، أي : هذا مما لا يعجب منه إذ له تعالى التصرف التام بإرسال من يشاء لمن يشاء ، قال : الواو للعطف والمعطوف محذوف ، كأنه قيل ، أوكذبتم وعجبتم أن جاءكم . انتهى . وهو كلام مخالف لكلام الزمخشري والنحاة ؛ لأنهم يقولون : إن الواو لعطف ما بعدها على ما قبلها من الكلام ولا حذف هناك وكأن الأصل وأعجبتم لكنه اعتنى بهمزة الاستفهام فقدمت على حروف العطف ؛ لأن الاستفهام له صدر الكلام ، وقد تقدم الكلام معه في نظير هذه المسألة ، وقد رجع هو عن هذا إلى قول الجماعة ، والذكر الوعظ أو الوحي أو المعجز أو كتاب معجز أو البيان ، أقوال والأولى أن يكون قوله : ( سيبويه على رجل ) فيه إضمار ، أي : على لسان رجل كما قال : ( ما وعدتنا على رسلك ) ، وقيل : على بمعنى مع ، وقيل : لا حذف ولا تضمين في الحرف ، بل قوله : ( على رجل ) هو على ظاهره ؛ لأن ( جاءكم ) بمعنى نزل إليكم كانوا يتعجبون من نبوة نوح ، ويقولون ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين يعنون إرسال البشر و ( لو شاء ربنا لأنزل ملائكة ) وذكر عليه المجيء وهو الإعلام بالمخوف والتحذير من سوء عاقبة الكفر ووجود التقوى منهم ورجاء الرحمة ، وكأنها علة مترتبة فجاءكم الذكر للإنذار بالمخوف ، والإنذار بالمخوف لأجل وجود التقوى منهم ، ووجود التقوى لرجاء الرحمة وحصولها ، فعلل المجيء بجميع هذه العلل المترتبة ؛ لأن المترتب على السبب سبب .
( وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك ) . أخبر تعالى أنهم كذبوه هذا مع حسن ملاطفته لهم ومراجعته لهم وشفقته عليهم فلم يكن نتيجة هذا إلا التكذيب له فيما جاء به عن الله ( والذين معه في الفلك ) هم من آمن به وصدقه وكانوا أربعين رجلا ، وقيل : ثمانين رجلا وأربعين امرأة . قاله الكلبي وإليهم تنسب القرية التي ينسب إليها الثمانون وهي بالموصل ، وقيل : عشرة فيهم أولاده [ ص: 323 ] الثلاثة ، وقيل : تسعة منهم بنوه الثلاثة وفي قوله : ( وأغرقنا الذين كذبوا ) إعلام بعلة الغرق وهو التكذيب و ( بآياتنا ) يقتضي أن نوحا كانت له آيات ومعجزات تدل على إرساله ويتعلق ( في الفلك ) بما يتعلق به الظرف الواقع صلة ، أي : والذين استقروا معه في الفلك ، ويحتمل أن يتعلق بأنجيناه ، أي : أنجيناهم في السفينة من الطوفان وعلى هذا يحتمل أن تكون في سببية ، أي : بالفلك كقوله ، أي : بسبب هرة و ( دخلت النار في هرة عمين ) من عمي القلب ، أي : غير مستبصرين ، ويدل على ثبوت هذا الوصف كونه جاء على وزن فعل ، ولو قصد الحذف لجاء على فاعل كما جاء ضائق في ضيق وثاقل في ثقيل إذا قصد به حدوث الضيق والثقل ، قال : عميت قلوبهم عن معرفة التوحيد والنبوة والمعاد ، وقال ابن عباس معاذ النحوي : رجل عم في أمره لا يبصره وأعمى في البصر . قال :
ما في غد عم ولكنني عن علم
وقد يكون العمى والأعمى كالخضر والأخضر ، وقال الليث : رجل عم إذا كان أعمى القلب .