لمن الظعائن سيرهن تزحف منك السفين إذا تقاعس تجرف
وقال الفراء : الزحف الدنو قليلا ، يقال : زحف إليه يزحف زحفا إذا مشى ، وأزحفت القوم دنوت لقتالهم ، وكذلك تزحف وتزاحف وأزحف لنا عدونا إزحافا صاروا يزحفون لقتالنا ، فازدحف القوم ازدحافا مشى بعضهم إلى بعض ، وقال ثعلب ، ومنه الزحاف في الشعر ، وهو أن يسقط من الحرفين حرف ويزحف أحدهما إلى الآخر ، وسمي الجيش العرمرم بالزحف لكثرته ، كأنه يزحف إلي يدب دبيبا ، من زحف الصبي إذا دب على أليته قليلا قليلا ، وأصله مصدر زحف ، وقد جمع أزحف على زحوف . وقال الهذلي يصف منهلا :
[ ص: 474 ]
كأن مزاحف الحيات فيه قبيل الصبح آثار السياط
المتحيز المنضم إلى جانب ، وقال أبو عبيدة : التحيز والتحوز التنحي ، وقال الليث : ما لك متحوزا إذا لم تستقر على الأرض ، وأصله من الحوز ، وهو الجمع ، يقال : حزته في الطرس فانحاز ، وتحيز انضم واجتمع ، وتحوزت الحية انطوت واجتمعت ، وسمى التنحي تحيزا ; لأن المتنحي عن جانب ينضم عنه ويجتمع إلى غيره ، وتحيز تفيعل ، أصله تحيوز ، اجتمعت ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت فيها الياء ، وتحوز تفعل ضعفت عينه . الرمي معروف ، ويكون بالسهم والحجر والتراب . المكاء : الصفير . وقال عنترة :
وخليل غانية تركت مجندلا تمكوا فريصته كشدق الأعلم
أي : تصوت ، ومنه مكت است الدابة إذا نفخت بالريح . وقال : المكاء الصفير على لحن طائر أبيض بالحجاز يقال له : المكاء ، قال الشاعر : السدي
إذا غرد المكاء في غير روضة فويل لأهل السقاء والحمرات
وقال أبو عبيدة وغيره : مكا يمكو مكاء إذا صفر ، والكثير في الأصوات أن تكون على فعال كالصراخ والخوار والدعاء والنباح . التصدية : التصفيق ، صدى يصدي تصدية صفق ، وهو فعل من الصدى ، وهو الصوت الركم . قال الليث : جمعك شيئا فوق شيء حتى تجعله ركاما مركوما كركام الرمل والسحاب . مضى تقدم ، والمصدر المضي .
يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما أخبر أنه سيلقي الرعب في قلوب الكفار ، وأمر من آمن بضرب فوق أعناقهم وبنانهم حرضهم على الصبر عند مكافحة العدو ونهاهم عن الانهزام ، وانتصب زحفا على الحال ، فقيل من المفعول ، أي : لقيتموهم وهم جمع كثير وأنتم قليل فلا تفروا ، فضلا عن أن تدانوهم في العدد أو تساووهم ; وقيل : من الفاعل ، أي : وأنتم زحف من الزحوف ، وكان ذلك إشعارا بما سيكون منهم يوم حنين حين انهزموا وهم اثنا عشر ألفا بعد أن نهاهم عن الفرار يومئذ ; وقيل : حال من الفاعل والمفعول ، أي : متزاحفين ، ولم يذكر ابن عطية إلا ما يدل على أنه حال منهما ، قال : زحفا يراد به متقابلي الصفوف والأشخاص ، أي : يزحف بعضهم إلى بعض . وقيل : انتصب زحفا على المصدر بحال محذوفة ، أي : زاحفين زحفا ، وهذا الذي قيل محكم ، فحرم بكل حال . وقيل : كان هذا في ابتداء الإسلام حيث كان الأمر بالمصابرة أن يواقف مسلم عشرة كفار ، ثم خفف فجعل واحد في مقابلة اثنين ، ويأتي حكم المؤمنة الفارة من ضعفها في آية التخفيف ، وعدل عن الظهور إلى لفظ الأدبار تقبيحا لفعل الفار وتبشيعا ; لانهزامه ، وتضمن هذا النهي الأمر بالثبات والمصابرة .
ومأواه جهنم ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله لما نهى تعالى عن تولي الأدبار توعد من ولى دبره وقت لقاء العدو وناسب قوله : ومن يولهم فقد باء بغضب ، كأن المعنى : فقد ولى مصحوبا بغضب الله ، وعدل أيضا عن ذكر الظهر إلى الدبر مبالغة في التقبيح والذم ; إذ تلك الحالة من الصفات القبيحة المذمومة جدا ، ألا ترى إلى قول الشاعر :
فلسنا على الأعقاب تجري كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدما
قال في التحرير : وهذا النوع من علم البيان يسمى بالتعريض ، عرض بسوء حالهم وقبح فعالهم [ ص: 475 ] وخساسة منزلتهم ، وبعضهم يسميه الإيماء ، وبعضهم يسميه الكناية ، وهذا ليس بشيء ، فإن الكناية أن تصرح باللفظ الجميل على المعنى القبيح ، انتهى ، والظاهر أن الجملة المحذوفة بعد إذ وعوض منها التنوين هي قوله : إذ لقيتم الكفار ، تعقيل المراد يوم بدر وما وليه في ذلك اليوم وقع الوعيد بالغضب على من فر ، ونسخ بعد ذلك حكم الآية بآية الضعف ، وبقي ليس كبيرة ، وقد فر الناس يوم الفرار من الزحف أحد فعفا الله عنهم وقال الله فيهم : ويوم حنين ثم وليتم مدبرين ولم يقع على ذلك تعنيف ، انتهى ، وهذا القول بأن الإشارة بقوله : يومئذ إلى يوم بدر لا يظهر ; لأن ذلك في سياق الشرط ، وهو مستقبل ، فإن كانت الآية نزلت يوم بدر قبل انقضاء القتال ، فيوم بدر فرد من أفراد لقاء الكفار فيندرج فيه ، ولا يكون خاصا به ، وإن كانت نزلت بعده فلا يدخل يوم بدر فيه ، بل يكون ذلك استئناف حكم في الاستقبال . قال ابن عطية : والجمهور على أنه إشارة إلى يوم اللقاء الذي تضمنه قوله : إذا لقيتم ، وحكم الآية باق إلى يوم القيامة بسبب الضعف الذي بينه الله في آية أخرى ، وليس في الآية نسخ ، وأما يوم أحد فإنما فر الناس من مراكزهم من ضعفهم ، ومع ذلك عنفوا لكون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم وفرارهم عنه ، وأما يوم حنين فكذلك من فر إنما انكشف أمام الكرة ، ويحتمل أن عفو الله عن من فر يوم أحد كان عفوا عن كثرة ، انتهى ، وقرأ الحسن : دبره ، بسكون الباء ، وانتصب متحرفا و متحيزا عن الحال من الضمير المستكن في قولهم العائد على من . قال : وإلا لغو أو عن الاستثناء من المولين ، أي : ومن يولهم إلا رجلا منهم متحرفا أو متحيزا ، انتهى ، وقال الزمخشري ابن عطية : وأما الاستثناء فهو من المولين الذين يتضمنهم من ، انتهى ، ولا يريد بقوله : وإلا لغو أنها زائدة إنما يريد أن العامل الذي هو يولهم وصل إلى العمل فيما بعدها ، كما قالوا في لا من قولهم : جئت بلا زاد : إنها لغو ، وفي الحقيقة هو استثناء من حالة محذوفة ، والتقدير : ومن يولهم ملتبسا بأية حالة إلا في حال كذا ، وإن لم يقدر حال غاية محذوفة لم يصح دخول إلا ; لأن الشرط عندهم واجب ، وحكم الواجب لا تدخل إلا فيه لا في المفعول ولا في غيره من الفضلات ; لأنه يكون استثناء مفرغا ، والاستثناء المفرغ لا يكون في الواجب ، لو قلت : ضربت إلا زيدا ، وقمت إلا ضاحكا لم يصح ، والاستثناء المفرغ لا يكون إلا مع النفي أو النهي أو المؤول بهما ، فإن جاء ما ظاهره خلاف ذلك قدر عموم قبل إلا حتى يصح الاستثناء من ذلك العموم ، فلا يكون استثناء غير مفرغ ، وقال قوم : الاستثناء هو من أنواع التولي ، ورد بأنه لو كان ذلك لوجب أن يكون إلا تحرفا أو تحيزا ، والتحرف للقتال هو الكر بعد الفر يخيل عدوه أنه منهزم ثم ينعطف عليه ، وهو عين باب خدع الحرب ومكائدها ، قاله الزمخشري ، وقال : يراد به الذي يرى أن فعله ذلك أنكى للعدو وأعود عليه بالشر ، والفئة هنا ، قال الزمخشري الجمهور : هي الجماعة من الناس الحاضرة للحرب ، فاقتضى هذا الإطراق أن تكون هذه الفئة من الكفار ، أي : لكونه يرى أنه ينكي فيها العدو ويبلي أكثر من إبلائه فيما قابله من الكفار ، إما لعدم مقاومته أو لكون غيره يعنى فيمن قاتله منهم فتحيز إلى فئة أخرى من الكفار ليبلي فيها ، واقتضى أيضا أن تكون هذه الفئة من المسلمين ، أي : تحيز إليها لينصرها ويقويها إذا رأى فيها ضعفا وأغنى غيره في قتال من قاتله من الكفار ، وبهذا فسر ، قال : الزمخشري إلى فئة جماعة أخرى من المسلمين سوى الفئة التي هو فيها ; وقيل : الفئة هنا المدينة والإمام وجماعة المسلمين أينما كانوا ، وروي هذا عن عمر : انهزم رجل من القادسية فأتى المدينة إلى عمر رضي الله عنه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، هلكت ، فررت من الزحف ، فقال عمر رضي الله عنه : أنا فئتك . وعن رضي الله عنه : ابن عمر المدينة [ ص: 476 ] استحيوا فدخلوا البيوت ، فقلت : يا رسول الله نحن الفرارون . فقال : بل أنتم العكارون وأنا فئتكم . قال خرجت سرية وأنا فيهم ففروا ، فلما رجعوا إلى ثعلب : العكارون العطافون ، وقال غيره : يقال للرجل الذي يولي عن الحرب لم يكن راجعا : عكر واعتكر ، وعن رضي الله عنهما : الفرار من الزحف من أكبر الكبائر ، وفي صحيح ابن عباس من حديث البخاري قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : أبي هريرة ، وعد فيها الفرار من الزحف ، وفي التحرير : التولي الذي وقع عليه الوعيد هو الفرار مع المصابرة على الثبات ، فأما إذا جاءه من لا يستطيع معه الثبات فليس ذلك بالفرار ، انتهى . وما أحسن ما استعذر اتقوا السبع الموبقات ; إذ فر فقيل فيه : الحارث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ونجا برأس طمرة ولجام
وقال الحارث من أبيات :
وعلمت أني إن أقاتل واحدا أقتل ولم يضرر عدوي مشهدي
واستدل القاضي بهذه الجملة الشرطية على وعيد الفساق من أهل الصلاة ; لأنها دلت على أن من انهزم إلا في هاتين الحالتين استوجب غضب الله ومأواه جهنم . قال : وليس للمرجئة أن يحملوا ذلك على الكفار ، كما فعلوا في آيات الوعيد ; لأن ذلك مفتتح بأهل الصلاة ، وهو قوله : ياأيها الذين آمنوا ، انتهى ، ولا حجة في ذلك ; لأنه عام مخصوص ، والظاهر أنه يجوز التحيز سواء عظم العسكر أم لا ; وقيل : لا يجوز إذا عظم ، والظاهر أن الفرار من الزحف بغير شروطه كبيرة للتوعد ، ولذلك قال ابن القاسم : لا تقبلوا شهادة من فر من الزحف وإن فر أمامهم ، ومن فر فليستغفر الله ففي الترمذي : . من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم غفر له وإن كان قد فر من الزحف