الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            القول في اللعب بالشطرنج والحمام .

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : واللاعب بالشطرنج والحمام بغير قمار ، وإن كرهنا ذلك أخف حالا . " قال المزني : " رحمه الله ، فكيف يحد من شرب قليلا من نبيذ شديد ويجيز شهادته .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذه المسألة تشتمل على فصلين :

                                                                                                                                            أحدهما : في لعب الشطرنج .

                                                                                                                                            والثاني : في اللعب بالحمام .

                                                                                                                                            فأما اللعب بالشطرنج ، فالكلام فيه يشتمل على فصلين :

                                                                                                                                            أحدهما : في إباحتها وحظرها .

                                                                                                                                            والثاني : في عدالة اللاعب بها وجرحه .

                                                                                                                                            فأما إباحتها وحظرها ، فقد اختلف الفقهاء على ثلاثة مذاهب :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو مذهب مالك ، أنها حرام .

                                                                                                                                            والثاني : وهو مذهب أبي حنيفة ، أنها مكروهة كراهة تغليظ يوجب المنع ، وإن لم يبلغ مبلغ التحريم .

                                                                                                                                            [ ص: 178 ] والثالث : وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه : أنها ليست محرمة كما قال مالك رضي الله عنه ، ولا بمغلظة الكراهة ، كما قال أبو حنيفة ، ثم قال : وإن كرهنا ذلك ، وأراد به كراهة تنزيه .

                                                                                                                                            واختلف أصحابه فيما تعود كراهته إليه على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : تعود كراهته إليها لأنه ضرب من اللعب .

                                                                                                                                            والثاني : تعود كراهته إلى ما يحدث عنها من الخلاعة .

                                                                                                                                            واستدل من حظرها وحرمها بما رواه الحسن البصري : " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اللعب بالشطرنج " .

                                                                                                                                            وبما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كل اللعب حرام إلا لعب الرجل بقوسه ، ولعبه بفرسه ، ولعبه مع زوجته ، فعم تحريم اللعب إلا ما استثناه " .

                                                                                                                                            فكان الشطرنج داخلا في عموم التحريم وخارجا من استثناء الإباحة .

                                                                                                                                            وبما روي عن علي ، عليه السلام مر بقوم يلعبون بالشطرنج ، فقال : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ؟ وألقى فيها كفا من تراب فدل تشبيهه لها بالأصنام على تحريمها كالأصنام .

                                                                                                                                            وسئل مالك عنها ، فقال : أحق هي ؟ قيل : لا . قال : فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون .

                                                                                                                                            واستدل من أباحها وحللها : بانتشارها بين الصحابة والتابعين إقرارا عليها ، وعملا بها ، فروى الخطيب مولى سليمان بن يسار قال : كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يمر بنا ونحن نلعب بالشطرنج ، فيسلم علينا ولا ينهانا .

                                                                                                                                            وروى الضحاك بن مزاحم قال : رأيت الحسن بن علي ، عليه السلام مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال : ادفع ذا ودع ذا .

                                                                                                                                            وروى أبو راشد قال : رأيت أبا هريرة يدعو غلاما ، فيلاعبه بالشطرنج .

                                                                                                                                            وروى عبد الله بن عباس : أنه كان يجيز الشطرنج ويلعب بها .

                                                                                                                                            [ ص: 179 ] وروى عبد الله بن الزبير أنه كان يلعب بالشطرنج .

                                                                                                                                            فهؤلاء خمسة من الصحابة أقروا عليها ولعبوا بها .

                                                                                                                                            وأما التابعون : فروي عن سعيد بن المسيب أنه كان يلعب بها .

                                                                                                                                            وروى الشافعي عن سعيد بن جبير أنه كان يلعب بها استدبارا . قال المزني : فقلت للشافعي : فكيف كان يلعب بها استدبارا ؟ فقال : كان يوليها ظهره ويقول للغلام : بماذا دفع ؟ فيقول : بكذا . فيقول : ائت بكذا .

                                                                                                                                            وروى الزهري عن علي بن الحسين أنه كان يلاعب أهله بالشطرنج .

                                                                                                                                            وروى أبو لؤلؤة قال : رأيت الشعبي يلعب بالشطرنج مع الغرماء .

                                                                                                                                            وروى راشد بن كريب قال : رأيت عكرمة مولى ابن عباس أقيم قائما في لعب الشطرنج .

                                                                                                                                            وروي أن محمد بن سيرين كان يلعب بالشطرنج وقال : هي لب الرجال .

                                                                                                                                            وإذا اشتهر هذا عمن ذكرنا من الصحابة والتابعين وقد عمل به معهم من لا يحصى عددهم من علماء الأمصار وفضلائهم ، من حذفنا ذكرهم إيجازا ، خرج من حكم الحظر ، وكان بالإجماع أشبه .

                                                                                                                                            وليس إنكار علي ، عليه السلام لها لأجل حظرها . وقيل : لأنهم سمعوا الأذان وهم متشاغلون عنها . وقيل : لأنهم كانوا يستخفون في الكلام عليها .

                                                                                                                                            وما رواه الحسن مرسل وليس بصحيح ، ولا يمنع أن يكون قياسا على ما استثناه الرسول من اللعب : لأن فيها تنبيها على مكائد الحرب ووجوه الحزم وتدبير الجيوش . وما بعث على هذا ، إن لم يكن ندبا مستحبا فأحرى أن لا يكون حظرا محرما .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية