الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : وإن كان لهما عند التحالف بينة فعلى ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن تحضر البينة قبل التحالف ، فتسمع ويمنع حضورها من التحالف ، لأن البينة أولى من اليمين .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن تحضر البينة بعد التحالف ، فيكون سماعها محمولا على ما أوجبه التحالف من فسخ العقد .

                                                                                                                                            فإن قيل : إنه قد انفسخ به العقد ظاهرا وباطنا لم تسمع البينة .

                                                                                                                                            [ ص: 319 ] وإن قيل إنه قد انفسخ به العقد في الظاهر دون الباطن سمعت ، لأن تصادقهما أقوى من سماع البينة منهما ، وتصادقهما غير معمول به إذا قيل بفسخ العقد في الظاهر والباطن ، ومعمول به إذا قيل بفسخ العقد في الظاهر ، دون الباطن ، كذلك البينة ، فإذا سمعت البينة على ما ذكرنا لم يخل أن تكون لأحدهما أو لهما :

                                                                                                                                            فإن كانت لأحدهما سمعت ، وحكم بها لمقيمها سواء شهدت للمكري ، أو للمكتري .

                                                                                                                                            فإن أقام كل واحد منهما بينة شهدت له بما ادعى لم يخل حالهما من ثلاثة أضرب :

                                                                                                                                            أحدها : أن تكون إحدى البينتين أسبق تاريخا من الأخرى ، فإن شهدت إحداهما بأنهما تعاقدا مع طلوع الشمس ، وشهدت الأخرى أنهما تعاقدا مع زوالها من ذلك اليوم ، فالعقد هو السابق منهما ، لأن الثاني بعد صحة الأول باطل .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن تشهد البينتان بالعقد في وقت واحد ، فقد اختلف قول الشافعي في تعارض البينتين في الأموال على ثلاثة أقاويل :

                                                                                                                                            أحدها : إسقاط البينتين ، وبه قال مالك لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : لتكاذبهما في الشهادة ، فسقطت بالتكاذب .

                                                                                                                                            والثاني : أن البينة ما بان بها الحكم ، فإذا لم يكن بها بيان ردت ، لأنه لا بيان فيها لأحدهما بعينه .

                                                                                                                                            والقول الثاني : أنه يقرع بين البينتين ، ويحكم بمن قرع منهما ، وهو محكي عن علي ، وابن الزبير رضي الله عنهما لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : ما رواه سعيد بن المسيب ، أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء وأقام كل واحد منهما شهودا ، فأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما " وقال اللهم أنت تقضي بينهما " .

                                                                                                                                            والثاني : أن اشتباه الحقوق المتساوية ، يوجب تمييزها بالقرعة ، كدخولها في القسمة في السفر بإحدى نسائه ، وفي عتق عبيده ، إذا استوعبوا التركة .

                                                                                                                                            والقول الثالث : أن يقسم الملك بينهما بالبينتين ، وهو محكي عن ابن عباس ، وبه قال سفيان الثوري ، وأبو حنيفة ، وأصحابه لأمرين :

                                                                                                                                            [ ص: 320 ] أحدهما : ما رواه سعيد بن أبي بردة ، عن أبيه ، عن جده أبي موسى الأشعري ، أن رجلين تداعيا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرا ، أو دابة ، وشهد لكل واحد منهما شاهدان ، فجعله بينهما نصفين .

                                                                                                                                            والثاني : أن البينة أقوى من اليد ، وقد ثبت أنهما إذا تساويا في اليد جعل بينهما ، فوجب إذا تساويا في البينة ، أن يكون أولى ، بأن يجعل بينهما ، فهذه ثلاثة أقاويل اتفق أصحابنا على تخريجها في تعارض البينتين في الأموال ، واختلفوا في تخريج قول رابع وهو : وقفهما على البيان ، فخرجه البغداديون قولا رابعا للشافعي ، وامتنع البصريون من تخريجه قولا رابعا ، لأن وقف البينة على البيان يوجب الحكم بالبيان دون البينة ، وإنما يوقف المال على البيان دون البينة ، وهذا أشبه ، فإذا تقررت هذه الأقاويل في تعارض البينتين لم يخرج في تعارضهما في عقد الإجارة إلا قولين :

                                                                                                                                            أحدهما : إسقاطهما ويتحالف المتداعيان .

                                                                                                                                            والقول الثاني : الإقراع بين البينتين ، والحكم بشهادة من قرع منهما .

                                                                                                                                            وفي إحلاف من قرعت بينته قولان ، من اختلاف قولي الشافعي في القرعة هل دخلت ترجيحا للدعوى أو للبينة ؟ فأحد قوليه أنها دخلت ترجيحا للبينة ، فعلى هذا لا يمين على من قرعت بينته ، لأن الحكم بالبينة ولا يمين مع البينة .

                                                                                                                                            والقول الثاني : أنها دخلت ترجيحا للدعوى ، فيجب إحلاف المدعي .

                                                                                                                                            فعلى هذا يكون فيما ثبت به الحكم وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : باليمين مع البينة ، وتكون يمينه بالله أنه ما شهدته بينته حق ، وقد نص عليه الشافعي .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن الحكم يثبت بيمينه ترجيحا بالبينة ، وتكون يمينه بالله ، لقد اكتريت منه الدار بكذا .

                                                                                                                                            ولا يجيء فيه تخريج القول الثالث ، أنه يقسم بينهما بالبينتين ، لأن قسمة العقد لا تصح ، ولا يجيء فيه تخريج القول الرابع إن صح تخريجه ، أنه يكون موقوفا على البيان لتعذره في الدعوى والبينة ، فوجب أن يفصل الحكم بينهما بالتحالف .

                                                                                                                                            والضرب الثالث : أن تكون البينتان مطلقتين ليس فيهما تاريخ يدل على اجتماعهما أو تقدم إحداهما ، فقد حكي عن أبي العباس بن سريج ، أنه يحكم بأزيد البينتين ، فإن كان الاختلاف في الأجرة حكم بأكثرهما قدرا .

                                                                                                                                            وإن كان في الكراء حكم بأكثرهما قدرا .

                                                                                                                                            [ ص: 321 ] كما لو شهدت بينة بألف ، وبينة بألفين ، حكم بالألفين ، والذي نص عليه الشافعي : أن البينتين متعارضتان تتساوى فيها الزيادة والنقصان ، لأن عقد الكراء بعشرة يمنع من عقده بعشرين ، وكراء البيت بعشرة يمنع من كراء الدار بعشرين ، فيكون تعارضهما محمولا على القولين ، يسقطان من أحدهما ويقرع بينهما في الثاني .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية