الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : أن يقول : وقفت بعده الدار على زيد ، ولم يذكر آخره لم يصح : لأن زيدا يموت فيصير الوقف منقطعا ، وكذلك لو قال : على زيد وأولاده وأولاد أولاده ما تناسلوا : لأنه وقف لا يعلم تأبيده لجواز انقراضهم فصار وقفا منقطعا ، وهكذا لو وقف على مسجد أو رباط أو نفر : لأن المسجد والرباط قد يخربان ويبطلان ، والثغر قد يسلم أهله فصار منقطعا حتى يقول : فإن بطل ، فعلى الفقراء والمساكين .

                                                                                                                                            وأما إن وقفه على قراء القرآن لم يكن منقطعا : لأنهم باقون ما بقي الإسلام ، وقد تكفل الله تعالى بإظهاره على الدين كله ، وهكذا لو وقفه على المجاهدين في سبيل الله كان وقفا باقيا إذا لم يكن على ثغر بعينه ، وإذا لم يجز بما وصفنا أن يكون الوقف مقدرا ولا منقطعا ، ففيه قولان إن فعل ذلك .

                                                                                                                                            أحدهما : باطل ؛ لأن حكم الوقف أن يكون مؤبدا ، والمنقطع غير مؤبد فلم يصر وقفا .

                                                                                                                                            والقول الثاني : أن الوقف جائز : لأنه إذا كان الأصل موجودا لم يحتج إلى ذكر من ينتقل إليه كالوصايا والهبات .

                                                                                                                                            فإذا قيل ببطلان الوقف كان ملك الواقف ، ولا يلزم في الأصل ولا في غيره ، وله التصرف فيه كسائر أملاكه .

                                                                                                                                            فإذا قيل بجواز الوقف ، كان على الأصل الموجود ما كان باقيا لا حق لواقفه فيه ، فإذا هلك الأصل وهو أن يموت الوقف فينقطع سبله ، فلا يخلو حال الواقف من ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن يشترط تحريمها وتأبيدها .

                                                                                                                                            [ ص: 522 ] والثاني : أن يشترط رجوعها إليه .

                                                                                                                                            والثالث : أن يطلق ، وإن اشترط رجوعها إليه ففيه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو قول أبي العباس بن سريج وهو مذهب مالك أنهما ترجع إليه لما ذكرنا لهما من الآثار لموجب الشرط .

                                                                                                                                            والثاني : وهو الأصح : لأنها لا ترجع تغليبا للحكم في الوقف على الشرط ، وإن اشترط تأبيدها أو أطلق لم يرجع إليه لا يختلف : لأن تعيين الأصل قد أخرجه عن ملكه ، وفي مصرفه ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : يصرف في وجوه الخير والبر : لأنها أعم .

                                                                                                                                            والثاني : في الفقراء والمساكين : لأنهم مقصود الصدقات .

                                                                                                                                            والثالث : وهو مذهب الشافعي نص عليه في هذا الموضع وغيره أنه يرد على أقارب الواقف ، لكن أطلق المزني والربيع ذكر الأقارب ، ولم يفرق بين الفقراء والأغنياء ، وروى حرملة أنه يرد على الفقراء من أقاربه ، وكان بعض أصحابنا يخرج اختلاف الرواية على اختلاف قولين :

                                                                                                                                            أحدهما : يرد على الفقراء والأغنياء من أقاربه ، وهو ظاهر ما رواه المزني والربيع .

                                                                                                                                            والقول الثاني : يرجع على الفقراء منهم دون الأغنياء ، وهو نص ما رواه حرملة ، وقال جمهور أصحابنا : ليست الرواية مختلفة ، وإنما اختلاف المزني والربيع محمول على تقييد حرملة ، ويرد على الفقراء من أقاربه دون الأغنياء : لأنه مصرف الوقف المنقطع في ذوي الحاجة وإنما خص الأقارب صلة للرحم كالزكاة ، وإذا تقرر ما وصفنا فلا يخلو حال الوقف من أربعة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون على أصل موجود وفرع موجود .

                                                                                                                                            والثاني : أن يكون على أصل معدوم وفرع معدوم .

                                                                                                                                            والثالث : أن يكون على أصل موجود وفرع معدوم .

                                                                                                                                            والرابع : أن يكون على أصل معدوم وفرع موجود .

                                                                                                                                            فأما القسم الأول : وهو أن يكون على أصل موجود وفرع موجود فهو أن يقول : وقفت الدار على زيد ، فإذا مات فعلى الفقراء والمساكين ، فهذا جائز : لأنه قد جعل زيدا أصلا وهو موجود ، والفقراء والمساكين فرعا وهم موجودون ، وهكذا إذا قال : وقفتها على زيد وأولاده وأولاد أولاده ما تناسلوا ، ثم على الفقراء والمساكين صح ، وإن لم يكن أولاد زيد موجودين : لأنهم تبع لموجود ويتعقبهم فرع موجود ، ومن هذا الوجه صار الوقف ملحقا بالوصايا في فرعه .

                                                                                                                                            وأما القسم الثاني : وهو أن يكون أصل معدوم وفرع معدوم ، فهو أن يقول : وقفتها [ ص: 523 ] على من يولد لي ثم على أولادهم وأولاد أولادهم ما تناسلوا ، فهذا وقف باطل : لأن من يولد له معدوم ، ومن هذا الوجه صار ملحقا بالهبات ثم يكون ما وقفه على ملكه قولا واحدا بخلاف ما وقفه وقفا مرسلا لما ذكرنا من الفرق بين الأمرين .

                                                                                                                                            وأما القسم الثالث : وهو أن يكون على أصل موجود وفرع معدوم فهو ما ذكرنا من المقدر والمنقطع ، وفيه ما وصفنا من القولين .

                                                                                                                                            وأما القسم الرابع : هو أن يكون على أصل معدوم وفرع موجود ، فهو أن يقول : وقفتها على من يولد لي ، ثم على أولادهم ، فإذا انقرضوا فعلى الفقراء والمساكين ، فقد اختلف أصحابنا فكان أبو علي بن أبي هريرة يخرجها على قولين كما لو كان على أصل موجود وفرع معدوم .

                                                                                                                                            أحدهما : باطل لعدم أصله .

                                                                                                                                            والثاني : جائز لوجود فرعه ، وكان أبو إسحاق المروزي يجعل الوقف باطلا قولا واحدا ، وهذا هو الصحيح ، والفرق بين هذا وبين أن يكون على أصل موجود وفرع معدوم أن ما عدم أصله فليس له مصرف في الحال ، وإنما ينتظر له مصرف في ثاني حال ، فبطل ، وما وجد فله مصرف في الحال ، وأما ما يخاف عدم مصرفه في ثاني حال فلو قال : وقفتها على الفقراء والمساكين إلا أن يولد لي ولد ، فيكون الوقف له ولولده وأولادهم ما تناسلوا ، وإذا انقرضوا فالفقراء والمساكين ، وهذا وقف جائز : لأن الفقراء فيه أصل وفرع ، وإنما جعل ما بين الأصل والفرع معدوما ، فلم يمنع من صحة الوقف ، كما لو وقفه على ولد له موجود ثم على أولاده الذين لم يولدوا بعد ثم على الفقراء والمساكين كان الوقف جائزا ، فهذا حكم الشرط الثاني وما تفرع عليه .

                                                                                                                                            والشرط الثالث : أن يكون على جهة تصح ملكها أو التملك لها : لأن غلة الوقف مملوكة ، ولا تصح إلا فيما يصح أن يكون شيء من ذلك مالكا .

                                                                                                                                            قيل : هذا وقف على كافة المسلمين ، وإنما عين مصرفه في هذه الجهة فصار مملوكا مصروفا في هذه الجهة من مصالحهم .

                                                                                                                                            فعلى هذا لو قال : وقفت داري على دابة زيد لم يجز : لأن الدابة لا تملك ، ولا يصرف ذلك في نفقتها : لأن نفقتها تجب على المالك ، وهكذا لو قال : وقفتها على دار عمرو لم يجز : لأن الدار لا تملك فلو وقفها على عمارة دار زيد ، نظر فإن كانت دار زيد وقفا صح هذا الوقف : لأن الوقف طاعة وحفظ عمارته قربة ، فصار كما لو وقفها على مسجد أو رباط ، أو كانت دار زيد ملكا طلقا ، بطل هذا الوقف عليها : لأن الدار لا تملك وليس استيفاؤها واجبا إذ لزيد بيعها ، وليس في حفظ عمارتها طاعة ، ولو وقفها على عبد زيد ، نظر فإن كان الوقف على نفقة العبد لم يجز : لأن نفقته على سيده وإن كان الوقف ليكون العبد مالكا لغلته ، فعلى قولين من اختلاف قوليه في العبد هل يملك إذا ملك أم لا ؟ ولو وقفها على المكاتبين ، أو على [ ص: 524 ] مكاتب بعينه كان الوقف جائزا : لأن سهام الزكوات أغلظ حكما ، وفيها سهم الرقاب ، ولو وقفها على مدبر كان كالعبد وكذلك أم الولد ، ولكن لو وقفها على عبده أو مدبره أو مكاتبه أو أم ولده قبل موته لم يجز : لأنه كالوقف على نفسه ، فهذا حكم الشرط الثالث .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية