الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " فبذلك قلنا : لا تجوز شهادة أعمى ، لأن الصوت يشبه الصوت ، إلا أن يكون أثبت شيئا يعاينه وسمعا ونسبا ثم عمي فيجوز ، ولا علة في رده قال : والشهادة على ملك الرجل الدار والثوب على ظاهر الأخبار بأنه مالك ولا يرى منازعا في ذلك فتثبت معرفته في القلب ، فتسمع الشهادة عليه وعلى [ ص: 40 ] النسب إذا سمعه ينسبه زمانا وسمع غيره ينسبه إلى نسبه ولم يسمع دافعا ولا دلالة يرتاب بها "

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا صحيح . وشهادة الأعمى يختلف قبولها باختلاف ما رتبناه من أقسام الشهادات الثلاثة مما كان طريق العلم به المعاينة بالبصر كالأفعال .

                                                                                                                                            فشهادة الأعمى مردودة بإجماع لفقد آلته بذهاب بصره فيما يصير عالما به ، وما كان طريق العلم به السماع كالأنساب ، والأملاك ، والموت ، فشهادة الأعمى مقبولة فيه ، لمساواته للبصير في إدراكها بالسمع المتكافئان فيه .

                                                                                                                                            ولو تحمل الشهادة على الأفعال ، وهو بصير ثم عمي ، قبلت شهادته ، وعند أبي حنيفة أنها مردودة فيما يدرك بالسمع ، كردها فيما يدرك بالبصر ، وأجرى العمى مجرى الفسق حين قال : لو سمع الحاكم شهادته ، وهو بصير فلم يحكم بها حتى عمي لم يجز أن يحكم بها بعد عماه ، كما لم يجز أن يحكم بشهادة من حدث فسقه بعد الشهادة وقبل الحكم ، وبه قال محمد بن الحسن ، وخالفهما بالمصير إلى قولنا أبو يوسف ، واستدل بأن الكمال معتبر في الشهادة كاعتباره في ولاية الإمامة ، والقضاء لاعتبار الحرية والعدالة في جميعها ، فلا يجوز فيهما تقليد عبد ، ولا فاسق ، ولا أعمى ، فوجب إذا رد في الشهادة العبد والفاسق أن يرد فيها شهادة الأعمى ، قالوا : ولأن من لم تقبل شهادته في الأفعال لم تقبل في الأقوال ، كالعبد والفاسق .

                                                                                                                                            ودليلنا هو أن ما أدرك بالسماع استوى فيه الأعمى والبصير ، كما أن ما أدرك بالبصر استوى فيه الأصم والسميع لاختصاص العلم بجارحته المحسوس بها ، ولأنه فقد عضو لا يدرك به الشهادة ، فلم يعتبر في صحتها مع إمكان إدراكها كقطع اليد .

                                                                                                                                            ولأن الشهادة على الإنسان لا تؤثر فيها فقد رؤية المشهود عليه كالشهادة على ميت أو غائب ، والدليل على أن حدوث العمى بعد صحة الأداء لا يمنع من إمضاء الحكم بها - أن الموت المبطل لحاسة البصر وجميع الحواس ، إذا لم يمنع من إمضاء الحكم بالشهادة ، فذهاب البصر مع بقاء غيره من الحواس أولى أن لا يمنع من إمضاء الحكم بالشهادة ، ولأنه لما جاز للأصم أن يشهد بما اختص بالمعاينة ، وإن فقد حاسة السمع جاز للأعمى أن يشهد بما اختص بالسماع ، وإن فقد حاسة البصر ، لاختصاص الاعتبار بالحاسة المدركة ، واعتبار الشهادة بالولاية يبطل ، فالمرأة تجوز شهادتها وإن لم تصح ولايتها .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسهم على الأفعال ، فهو أن ما أدركت به الأفعال - مفقود في الأعمى ، وما أدركت به الأقوال موجود فيه فافترقا .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية