الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فإن عدل المدعي عن إثبات حقه بالبينة من أحد هذه الوجوه الثلاث مع [ ص: 75 ] القدرة عليها ، إلى إحلاف المدعى عليه ، عند إنكاره لم يمنع ، لأن البينة حق له ، وليست بحق عليه ، فلو أقام شاهدين ثم طلب أن لا يحكم له بهما ، ويحلف المدعى عليه ، أجيب إلى إحلافه ، فلو منع من إحلافه وطلب الحكم عليه ببينة أجيب إلى الحكم بها ، وقطعت على المدعى عليه ، ولو أقام شاهدا واحدا ، وامتنع من معه ورضي بإحلاف المنكر ، ثم رجع عن استحلافه ليحلف مع شاهده ، لم يكن له ذلك ، لأنه قد أسقط حقه من اليمين بما طلبه من إحلاف المنكر كما لم يكن للمنكر إذا نكل عن أن يرجع في ردها على المدعي ليحلف على إنكاره لإسقاطها في حقه بردها على خصمه ، وخالف البينة الكاملة التي لا يسقط حقه منها بطلب لأنها لا تنقل عنه إلى غيره ، فإن لم يحلف المدعي مع شاهده ، وطلب إحلافه المنكر ، أجيب إلى إحلافه ، فإن حلف برئ ، ولم يكن للشاهد تأثير ، وإن نكل عن اليمين لم يحكم عليه بالشاهد الواحد مع نكول المنكر .

                                                                                                                                            وقال مالك : أحكم عليه بالشاهد الواحد ، مع نكوله ، ولا أحلف المدعي وإن وافق على أن لا يحكم بالنكول إلا مع يمين المدعي ، استدلالا بأن النكول كالشاهد ، فإذا انضم إلى شاهد ، صار كالشاهدين فلم يحتج معهما إلى يمين الطالب .

                                                                                                                                            وهذا فاسد ، لأن الشاهد في الأموال كاللوث في الدماء ، فلما لم يحكم باللوث مع عدم الأيمان ، لم يحكم بالشاهد مع عدم اليمين ، ولا وجه لجعل النكول كالشاهد ، لأن الشاهد مثبت ، والناكل ناف فتضادا .

                                                                                                                                            فصل : فإذا ثبت أنه لا يحكم على الناكل بالنكول مع الشاهد ، لم يكن للمدعي أن يحلف مع شاهده ، لإسقاط حقه من تلك اليمين بردها ، على المنكر ، فإن طلب أن يرد عليه التي نكل عنها المنكر ، ففي جواز ردها عليه قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : لا يجوز أن ترد عليه ، لأنه قد أسقط حقه منها بردها على المنكر ، فلم تعد إليه بعد سقوطها .

                                                                                                                                            والقول الثاني : وهو أصح ، أنه ترد عليه هذه اليمين المستحقة بالنكول ، وإن لم ترد عليه هذه المستحقة مع الشاهد ، لاختلاف موجبهما ، فلم يكن سقوط حقه من إحداهما موجبا لسقوطه من الأخرى ، مع اختلافهما في السبب الموجب ، وليس التوقف عن اليمين مع الشاهد نكولا ، حتى يحكم الحاكم بنكوله فيها ، بعد توقفه فإذا تقرر هذان القولان :

                                                                                                                                            فإن قلنا بالأول أن يمين النكول ترد على المدعي ، عرضت عليه ، فإن حلف استحق ما ادعاه بيمينه لا بشاهده ، وإن نكل سقط حقه من بعد حكم الحاكم بنكوله فيها بعد توقفه وليس له أن يحكم بنكوله إلا أن يسأله المدعى عليه ، أن يحكم [ ص: 76 ] على المدعي بالنكول عن يمين الرد ، لأن قصد الحاكم بنكوله حق له ، ولا يكون نكوله عن الرد مع الشاهد قدحا في الشاهد ، فإن اقترن بشهادته شهادة غيره ثبتت البينة بهما ، وحكم له بالحق ، وإن انفصلت المحاكمة بالنكول لأن فصل المحاكمة بالأيمان أقوى ، ولا يمنع من سماع البينة ، فكان أولى أن لا يمنع في سماعها فصلها بالنكول الذي هو أضعف ، فإن عدم شاهد آخر سقط حكم البينة ، وخلي سبيل المنكر .

                                                                                                                                            وإن قلنا بالثاني : أن يمين النكول لا ترد على المدعي ، فقد قال أبو حامد الإسفراييني : إن المنكر يحبس بالشاهد حتى يحلف أو يغرم وهذا خطأ ، لأن الحبس على الحقوق يكون بعد ثبوت استحقاقها ، ولم يثبت الحق بالشاهد ، فلم يجز أن يحبس به ولم يجب عليه شيء ووجب تخلية سبيله .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية