الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو أتى قوم بشاهد أن لأبيهم على فلان حقا أو فلانا قد أوصى لهم فمن حلف منهم مع شاهده استحق ورثه أو وصيته دون من لم يحلف " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وصورتها في ورثة ميت ادعوا أن لميتهم دينا على رجل منكر ، أو ادعوا وصية وصى بها لميتهم ، وأقاموا على الدين والوصية شاهدا واحدا ، فلهم ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            [ ص: 79 ] أحدها : أن يحلفوا جميعا مع شاهد منهم ، فيستحقوا بأيمانهم مع شاهد منهم ما ادعوه من الدين ، والوصية لأنهما من حقوق الأموال المحكوم فيها بالشاهد واليمين ، ويكون الدين مقسوما بينهم على قدر مواريثهم . فأما الوصية فلا يخلو حالهم فيها من أحد أمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يدعوا أن ميتهم قبلها قبل موته ، فتكون الوصية بينهم على قدر مواريثهم ، لأن ميتهم قد ملكها بقبوله ، فصارت كسائر أمواله الموروثة عنه .

                                                                                                                                            والثاني : أن يذكروا أنه لم يقبلها ، وأنهم القابلون لها بعد موته ، ففي كيفية استحقاقهم لها بعد أيمانهم قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : تكون بينهم بالسوية ، إذا قيل : إن الوصية تملك بالقبول لأن من حكم الوصية أن يتساوى فيها أهل الوصايا ، فيكون للوارثين عن ميتهم حقه من القبول ، فيصيروا هم المالكين لها بالقبول من غير أن تدخل في ملك ميتهم . فعلى هذا لو كان على أبيهم دين لم يقض منها .

                                                                                                                                            والقول الثاني : تكون بينهم على قدر مواريثهم ، إذا قيل : إن القبول يبنى على ملك سابق ، من حين مات الموصي فيكون قبولهم موجبا لدخولها في ملك ميتهم ، ثم ملكوها عنه بالميراث فصاروا فيها على قدر مواريثهم ، فعلى هذا لو كان على أبيهم دين قضي منها .

                                                                                                                                            فصل : والحال الثانية : أن يمتنعوا جميعا من اليمين مع شاهد منهم ، فلا حق لهم فيما شهد به شاهدهم من الدين والوصية .

                                                                                                                                            فإن قيل : فهلا استحقوا النصف ، لأن لهم نصف البينة ، قيل : البينة لا تتبعض في الاستحقاق لأن كل جزء من الحق لا يستحق إلا بكمال البينة ، فلم يجز أن يستحق بعضه ببعض البينة ، فإن مات الورثة وأراد ورثتهم أن يحلفوا مع شاهدهم فهو على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون امتناعهم من الأيمان ، لنكولهم عنها ، فلا يجوز لورثتهم أن يحلفوا بعد موتهم ، لأنهم قد أسقطوا حقوقهم من الأيمان بنكولهم .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يكونوا قد توقفوا عن الأيمان ليحلفوا بها من غير نكول عنها ، فيجوز لورثتهم أن يحلفوا بعد موتهم ، ويستحقوا ما كان لهم لأن حقوقهم من الأيمان لم تسقط بالتوقف ، إنما تسقط بالنكول ، وليس التوقف نكولا .

                                                                                                                                            فصل : والحال الثالثة : أن يحلف بعض الورثة مع الشاهد ، وينكل بعضهم ، فيحكم لمن حلف بحقه من الدين والوصية ، ولا شيء لمن نكل عن اليمين لأمرين :

                                                                                                                                            [ ص: 80 ] أحدهما : أن الشاهد الواحد كاليد عند التنازع ، ولو حلف بعض ذوي الأيدي حكم له بيمينه ، دون من نكل كذلك هنا .

                                                                                                                                            والثاني : أن الشاهد الواحد حجة ، قد قبلها الحالف ، فثبت حقه بها ، وردها الناكل فسقط حقه منها ، وصار كأخوين ادعيا حقا من ميراث على منكر فنكل عن اليمين ، فردت على الأخوين ، فحلف أحدهما ، ونكل الآخر ، قضى للحالف بحقه دون الناكل .

                                                                                                                                            فإن قيل : إذا كان الشاهد واليمين بينة في ثبوت الحق كالشاهدين ، ولو أقام أحد الورثة البينة بشاهدين حكم بالحق لمن أقام البينة ولمن لم يقمها ، فهلا كان في الشاهد واليمين كذلك .

                                                                                                                                            قيل : لأن الشاهدين بينة كاملة في ثبوت الحق ، فثبت لجميعهم ، والشاهد الواحد تكمل به البينة مع أيمانهم ، فكملت بينة من حلف ، ونقصت به بينة من نكل ، فلذلك لم يستحق الناكل واستحق الحالف .

                                                                                                                                            فإن قيل : هذا ميراث يجب أن يشترك فيه جميع الورثة ، كأخوين ادعيا دارا ميراثا ، فصدق عليه أحدهما ، وأكذب الآخر ، كان النصف الذي استحقه المصدق بين الأخوين ، لكونه ميراثا يوجب تساويهما فيه ، فهلا كان ما استحقه الحالف مع شاهده مقسوما بين جميعهم ، لكونه ميراثا .

                                                                                                                                            قيل : الفرق بينهما أن المجحود ، كالمغصوب ، وغصب بعض التركة يوجب تساوي الورثة ، في غير المغصوب ، وليس كذلك في النكول مع الشاهد ، لأنه قادر على الوصول إلى حقه بيمينه ، فصار بنكوله ، كالمسلم والتارك له على خصمه ، وجرى ذلك مجرى أخوين أقر رجل لأبيهما بدين ، فقبله أحدهما ولم يقبله الآخر ، كان حق القابل خالصا له ، لا يشاركه فيه غير القابل ، لأنه تارك لحقه منه ، كذلك حكم الناكل مع الحالف .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية