الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : والخصلة الثالثة : ظهور المروءة . وهي على ثلاثة أضرب :

                                                                                                                                            ضرب يكون شرطا في العدالة . وضرب لا يكون شرطا فيها . وضرب مختلف فيه .

                                                                                                                                            [ ص: 151 ] وأما ما يكون شرطا فيها فهو : مجانبة ما سخف من الكلام المؤذي أو المضحك وترك ما قبح من الضحك الذي يلهو به . أو يستقبح لمعرفته أو أدائه . فمجانبة ذلك من المروءة التي هي شرط في العدالة ، وارتكابها مفض إلى الفسق .

                                                                                                                                            ولذلك نتف اللحية من السفه الذي ترد به الشهادة ، وكذلك خضاب اللحية من السفه الذي ترد به الشهادة ، لما فيها من تغيير خلق الله تعالى .

                                                                                                                                            فأما ما لا يكون شرطا فيها فهو الإفضال بالمال والطعام والمساعدة بالنفس والجاه ، فهذا من المروءة وليس بشرط في العدالة .

                                                                                                                                            فأما المختلف فيه فضربان : عادات ، وصنائع .

                                                                                                                                            فأما العادات فهو أن يقتدى فيها بأهل الصيانة دون أهل البذلة ، في ملبسه ومأكله وتصرفه .

                                                                                                                                            فلا يتعرى عن ثيابه في بلد يلبس فيه أهل الصيانة ثيابهم . ولا ينزع سراويله في بلد يلبس فيه أهل الصيانة سراويلهم ، ولا يكشف رأسه في بلد يغطي فيه أهل الصيانة فيه رءوسهم .

                                                                                                                                            وإن كان في بلد لا يجافي أهل الصيانة ذلك فيه ، كان عفوا ، كالحجاز والبحر الذي يقتصر أهله فيه على لبس المئزر .

                                                                                                                                            وأما المأكل فلا يأكل على قوارع الطرق ولا في مشيه ، ولا يخرج عن العرف في مضغه ، ولا يعاني بكثرة أكله .

                                                                                                                                            وأما التصرف فلا يباشر ابتياع مأكوله ومشروبه وحمله بنفسه في بلد يتجافاه أهل الصيانة . إلى نظائر هذا مما فيه بذلة وترك تصون .

                                                                                                                                            وفي اعتبار هذا الضرب من المروءة في شروط العدالة أربعة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : أنه غير معتبر فيها لإباحته .

                                                                                                                                            قد باع رسول الله صلى الله عليه وسلم واشترى فيمن يزيد ، واشترى سراويل بأربعة دراهم .

                                                                                                                                            وقال : " يا وزان زن وأرجح " . وقال الراوي : فأخذته لأحمله . فقال : " دعه فصاحب المتاع أحق بحمله " .

                                                                                                                                            وقيل لعائشة : ما كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزله إذا خلا ؟ قالت : كان يخصف النعل ويرقع الدلو . وكان أبو بكر رضي الله عنه يسلك الطريق في خلافته وهو متخلل بعباءة قد ربطها بشوكة .

                                                                                                                                            [ ص: 152 ] وكان عمر رضي الله عنه يلبس المرقعة . ويهنأ بعيره بيده ويقوده .

                                                                                                                                            وقد اشترى علي رضي الله عنه قميصا وأتى تجارا فوضع كمه وقال : اقطع ما فضل عن الأصابع ، فقطعه بفأس فقيل له : لو كففته ؟ فقال : دعه يتسلل مع الزمان . وعمل بالأجر في حائط وأجر نفسه من يهودية ليسقي كل دلو بتمرة .

                                                                                                                                            وما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه جاز ، لا يجوز أن يكون قادحا في العدالة ، لأن المروءة مشتقة من المرء ، وهو الإنسان فصارت الإشارة بها إلى الإنسانية ، فانتفت العدالة عن من لا إنسانية فيه ، ولأن المروءة من دواعي الحياة .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن هذا الضرب من المروءة شرط معتبر في العدالة ، ولأن المروءة مشتقة من المرء وهو الإنسان ، فصارت الإشارة بها للإنسانية ، فانتفت العدالة عن من لا إنسانية فيه ، ولأن حفظ المروءة من دواعي الحياء . وإن كان لا يفسق به ، لأن العدالة في الشهادة للفضيلة المختصة بها ، وهي تالية لفضيلة النبوة .

                                                                                                                                            قال الله تعالى : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا [ النساء : 41 ] .

                                                                                                                                            وقال الله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [ البقرة : 143 ] .

                                                                                                                                            وقال الله تعالى : والذين هم بشهاداتهم قائمون أولئك في جنات مكرمون [ المعارج : 33 ، 35 ] .

                                                                                                                                            وما كان بهذه المنزلة من الفضيلة امتنع أن يكون مسترسلا في البذلة . وليس ما ضله الصدر الأول بذلة ، لأنه لم يخرج عن عرف أهله في الزهادة والانحراف عن الدنيا إلى الآخرة .

                                                                                                                                            وقد روى أبو مسعود البدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن مما أدرك الناس من كلام النبوة : إذا لم تستح فاصنع ما شئت " .

                                                                                                                                            ولأن إقدامه على البذلة والعدول عن الصيانة دليل على اطراح الصيانة والتحفظ في حق نفسه فكان أولى أن يقل تحفظه في حق غيره .

                                                                                                                                            والوجه الثالث : أنه إن كان قد نشأ عليها من صغره لم تقدح في عدالته وإن [ ص: 153 ] استحدثها في كبيره قدحت في عدالته ، لأنه يصير بالمنشأ مطبوعا بها وبالاستحداث مختارا لها .

                                                                                                                                            والوجه الرابع : إن اختصت بالدين قدحت في عدالته كالبول قائما وفي الماء الراكد ، وكشف العورة إذا خلا ، وأن يتحدث بمساوئ الناس ، وإن اختصت بالدنيا لم تقدح في عدالته . كالأكل في الطريق وكشف الرأس " بين الناس والمشي حافيا ، لأن مروءة الدين مشروعة ومروءة الدنيا مستحسنة .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية