الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فإن أقام المدعي بينته ، وأقام صاحب اليد بينة ، سمعت بينته وقضى ببينته على بينة المدعي ، لفضل يده في جميع الأعيان سواء كان الملك مطلقا ، أو مذكورا

                                                                                                                                            [ ص: 303 ] لسبب وسواء فيما ذكر سببه مما يتكرر كصناعة الأواني ، وما ينتج من الخز مرة بعد أخرى ، لو كان مما لا يتكرر سببه كالنتاج ، وثياب القطن ، والكتان ، وبه قال مالك من أهل المدينة وقال به من أهل العراق شريح ، والنخعي ، والحكم بن عيينة .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن كان التنازع في ملك مطلق ، أو مما يتكرر سببه لم تسمع بينة صاحب اليد ، وقضي ببينة المدعي ، وإن كان مما لا يتكرر سمعت بينة صاحب اليد في الأحوال كلها ، وسموا المدعي خارجا ، وصاحب اليد داخلا ، فقال : تسمع بينة الخارج ، ولا تسمع بينة الداخل ، واستدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم " البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه " فأضاف البينة إلى جنبة المدعي وأضاف اليمين إلى جنبة المدعى عليه بحذف الألف واللام الموجب لاستغراق الجنس ، فاقتضى أن لا تنتقل البينة إلى المدعى عليه ، ولا تنتقل اليمين إلى المدعي .

                                                                                                                                            ولأن اليمين موجبة للملك ، فلم يستفد صاحب اليد بالبينة ما لا يستفيد بيده وبينة المدعي يحكم بها مع يد المدعى عليه ، فوجب أن يحكم بها مع بينته ، لأن بينته لم تعد إلا ما أفادته يده ، ثم اليد أقوى من البينة ، لأن اليد تدل على الملك مشاهدة والبينة تدل على الملك استدلالا ، فافترقا ولأنه لما لم تسمع بينة الداخل في الدين لم تسمع في العين لاستوائهما في حق الخارج في القبول ، فوجب أن يستويا في حق الداخل في الرد .

                                                                                                                                            قالوا : ولأنه لما لم تسمع بينة الداخل إذا لم يقم الخارج البينة مع قوة الداخل ، وضعف الخارج كان أولى أن لا تسمع بينة الداخل إذا أقام الخارج البينة مع ضعف الداخل ، وقوة الخارج لأن من لم تسمع بينته مع قوته ، كان أولى أن لا تسمع مع ضعفه .

                                                                                                                                            ودليلنا رواية جابر أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دابة ، أو بعير ، وأقام كل واحد منهما البينة أنها له بنتجها فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي هي في يده فدل على قبول بينة الداخل ، فإن قيل فبينة الداخل في النتاج مقبولة .

                                                                                                                                            قيل : وجه الدليل أنه قضى ببينة الداخل تعليلا باليد ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " البينة على المدعي " وقد صار كل واحد منهما مدعيا للعين ، وإن لم يصر مدعيا للدين ، فوجب بهذا الخبر ، أن تسمع بينة كل واحد منهما .

                                                                                                                                            ولأن جنبة الخارج ، أضعف من جنبة الداخل ، فلما سمعت لليد مع الضعف كان سماعها مع القوة أولى .

                                                                                                                                            [ ص: 304 ] وتحريره قياسا ، أنها بينة تسمع مع ضعف الجنبة ، فكان أولى أن تسمع مع قوة الجنبة كسماعها من المدعي ، إذا كانت له يد متقدمة ولأنهما إذا تنازعا ملكا ، لا يد لواحد منهما ، سمعت بينة كل واحد منهما ، فإذا انفرد أحدهما باليد ، لم يمنع من سماع بينته ، لأنها إن لم تفده قوة لم تفده ضعفا .

                                                                                                                                            وتحريره أن تساويهما في ادعاء الملك ، يوجب تساويهما في سماع البينة ، كما لو لم يكن لأحدهما عليه يد ، أو كان لكل واحد منهما يد عليه .

                                                                                                                                            ولأن بينة الخارج قد رفعت يد الداخل ، فصار كالخارج ، فوجب أن تسمع بينته كسماعها من الخارج .

                                                                                                                                            وتحريره قياسا أن كل من حكم عليه إذا عدم البينة ، وجب أن يحكم له إذا وجد البينة كالخارج ، ولأن اليد فعل زائد في القوة فلم يجز أن يمنع من سماع البينة .

                                                                                                                                            كما لو شهد لأحدهما شاهدان ، وشهد للآخر عشرة .

                                                                                                                                            ولأن كل حجة صح دفعها بالقدح فيها ، صح دفعها بالمعارضة لها كالخبرين وعمدة القياس على أبي حنيفة أنه لما سمعت بينة الداخل فيما لا يتكرر من النتاج ، وثوب القطن ، سمعت بينته في ما يتكرر من أواني الذهب والفضة ، وثوب الخز . وتحريره قياسا من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن كل من سمعت بينته فيما لا يتكرر من الأعيان سمعت بينته فيما يتكرر منها كالخارج .

                                                                                                                                            والثاني : أن كل يمين صح سماع البينة عليها من الخارج ، صح سماع البينة عليها من الداخل ، كالنتاج ، والأعيان التي لا تتكرر ، فاعترض أصحاب أبي حنيفة على هذا بما اختلف فيه متقدموهم ، ومتأخروهم ، فأما المتقدمون منهم فعارضوا في الفرق بينهما بأن البينة في النتاج وما لا يتكرر سببه ، تفيد ما لا تفيده يده ، لأن اليد تدل على الملك دون السبب والبينة تدل على الملك والسبب فلذلك سمعت بينته مع يده والبينة في الملك المطلق ، لا تفيد إلا ما أفادته يده ، فلذلك لم تسمع بينته مع يده ، وعنه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما أن عكس هذا بأن ما كان التعارض فيه ممكنا ، أولى بالقبول مما كان التعارض فيه كذبا .

                                                                                                                                            والثاني : أنهما متكاذبتان في الملك ، وإن أمكن صدقها في السبب المتكرر فلئن جاز أن يكون التكاذب في السبب موجبا لتغليظ الصدق باليد جاز أن يكون التكاذب في الملك موجبا لتغليب الصدق باليد ، فلم ينقلوا في كل الفرقين من فساد موضوعها .

                                                                                                                                            [ ص: 305 ] فأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم : " البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه " فمن وجهين .

                                                                                                                                            أحدهما : ما قدمناه في الاستدلال به عليهم ، بأنه قد صار كل واحد منهما مدعيا .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لا يمتنع أنه يحمل قوله : " البينة على المدعي " أنها تسمع من المدعى عليه على المدعي ، واليمين على المدعى عليه أنها تسمع على المدعي لأن قوله على مقتضى ظاهره ، أن يكون متوجها إلى من سمعت منه البينة ، وسمعت عليه اليمين ، فيكون الخبر محمولا على تأويلين مستعملين ، ثم أكثر ما فيه أن يكون عاما في جنس الأيمان والبينات ، والعموم يجوز تخصيص بعضه فيخص هذا بأدلتنا .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قولهم أن اليد موجبة للملك ، فلم يستفد صاحبها بالبينة ، ما لم يستفده بيده فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن اليد تدل على الملك ، ولا توجبه ، لأن اليد قد تكون لغصب ، أو أمانة ، أو إجارة فلم توجب الملك دون غيره ، وإن كانت في الظاهر محمولة عليه مع اليمين ، والبينة موجبة للملك بغير يمين ، فصار مستفيدا بالبينة ، ما لا يستفيده بيده من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنها أوجبت الملك واليد لا توجبه .

                                                                                                                                            والثاني : أنها أسقطت اليمين ، واليد لا تسقطها .

                                                                                                                                            والجواب الثاني ما قدمناه أن بينة المدعي ، قد رفعت يده في الحكم ، فاستفاد بالبينة إقرار يده على الملك .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قولهم ، إنه لما لم تسمع بينة المدعى عليه في الدين لم تسمع بينته في اليمين فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : ما قدمناه من أن البينة في الدين ، في جهة المدعي تكون على الإثبات ، ومن جهة المدعى عليه تكون على النفي ، والبينة ، تسمع على الإثبات ، ولا تسمع على النفي ، وهي على الأيمان موجبة للإثبات في الجهتين فسمعت منهما .

                                                                                                                                            والجواب الثاني : أنها تسمع البينة في الدين من جهة المدعى عليه ، إذا شهدت بالقضاء ، فصارت مسموعة من الجهتين .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قولهم إنه لما لم تسمع بينته ، مع عدم بينة الخارج ، كان أولى أن لا تسمع مع وجود بينة الخارج ، فهو أن لأصحابنا في سماعها وجهين ذكرناهما :

                                                                                                                                            [ ص: 306 ] أحدهما : تسمع ويسقط الاستدلال .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : لا تسمع .

                                                                                                                                            والفرق بينهما أنه لا تسمع بينته ، مع عدم بينة الخارج ، لأنه مستغن عنها بيمينه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية