الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فإن أراد صاحب اليد ، حين انتزعت الدار من يده ببينة المدعي ، أن يقيم بينة الغائب بملكه للدار لم يخل حاله في إقامتها من ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون ثابت الوكالة عن الغائب ، فيسمع منه البينة للغائب بالملك ، لأنه وكيله فيها ، ويحكم للغائب ، لأن له مع البينة يدا ليست للمدعي .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : أن لا يكون وكيلا للغائب ولا يتعلق له بالدار حق على الغائب من إجارة ، ولا رهن ، فلا تسمع منه البينة للغائب ، لأنه لا حق له في إقامتها ، وقد يجوز أن يكون الغائب منكرا لها ، ويكون الحكم فيها ببينة المدعي ، حتى يقدم الغائب ، فيدعي كمن شهدوا في تركة بقسم ومال مفلس يباع عليه أن عبدا من جملته ملك لغائب لم يدعه ، لم تسمع الشهادة ، وقسم بين ورثة الميت وغرماء المفلس ، وإن أراد إقامة البينة ، بملك الغائب لاستيفاء حقه منها بالإجارة أو بالرهن فقد اختلف أصحابنا في جواز سماع البينة منه على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : تسمع منه البينة فيها لتعلق حقه بها ، ويقضى بملكها للغائب ، ويقضى عليه لصاحب اليد بالإجارة ، والرهن ، ويكون القضاء بها لغير مدع ، تبعا للقضاء لحق الحاضر عليه .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو قول أبي إسحاق المروزي لا تسمع بينة الحاضر وإن ادعى الإجارة والرهن ، لأنهما تبع لملك الأصل ، فلم تصح فيه الإجارة ، ولا الرهن ، إلا بعد ثبوت ملك الغائب ، وملك الغائب لا يثبت بالبينة إلا بعد مطالبته . والله أعلم .

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو أقام رجل بينة أن هذه الدار كانت في يديه أمس ، لم أقبل ، قد يكون في يديه ما ليس له ، إلا أن يقيم بينة أنه أخذها منه " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا صحيح إذا كان في يد رجل دار فادعيت عليه وأقام مدعيها البينة أنها كانت في يده أمس ، كالذي نقله المزني والربيع ، أنه لا حجة للمدعي في هذه البينة بأن الدار كانت بيده بالأمس ، ويكون القول قول صاحب اليد مع يمينه . ونقل أبو يعقوب البويطي أن بينة المدعي مسموعة ، ويقضى له بالدار ، فاختلف أصحابنا في تخريجه ، فكان أبو العباس بن سريج يخرج سماعها على قولين :

                                                                                                                                            أحدهما : ما رواه المزني والربيع أن هذه البينة لا تسمع ولا يحكم بها للمدعي ، وتكون الدار مقرة في يد صاحب اليد في وقت الدعوى لأمرين :

                                                                                                                                            [ ص: 326 ] أحدهما : أن اليد غير موجبة للملك ، وإنما يستدل بظاهرها على الملك ، وإن جاز أن تكون بغير ملك ، لدخولها بغصب ، أو إجارة ، فإذا زالت بيد طارئة ، صارت الثابتة أولى من الزائلة لجواز انتقالها بملك طارئ من ابتياع ، أو هبة فبطل بزوالها ما أوجبه ظاهرها .

                                                                                                                                            والثاني : أن البينة تسمع فيما تصح فيه الدعوى ، ولو قال المدعي كانت هذه الدار في يدي بالأمس ، لم تسمع هذه الدعوى فوجب إذا أقام البينة بذلك أن لا يسمع ، لأن البينة يجب أن تكون مطابقة للدعوى في القبول والرد .

                                                                                                                                            والقول الثاني : وهو ما نقله " البويطي " أن بينة المدعي مسموعة ويحكم بها على اليد الطارئة ، لتقدمها ، إلا أن يقيم صاحب اليد بينة أنها انتقلت إليه بحق من هبة أو بيع ، لأن اليد دالة على الملك ، فجرت مجراه ، وقد ثبت أن المدعي لو أقام بينة على أن الدار كانت له بالأمس حكم له بها ، كذلك إذا أقام بينة أنها كانت في يده بالأمس ، وذهبأبو إسحاق المروزي وجمهور أصحابنا إلى إبطال ما نقله البويطي ، ونسبوه إلى مذهب لنفسه ، وليس بقول الشافعي لأن كتب الشافعي تدل نصوصها على خلافه ، وكذلك ما نقله عنه سائر أصحابه تعليلا ، بما قدمناه ، وفرقوا بين أن يقيم البينة ، أنه كان مالكا لها بالأمس ، فيحكم بها ، وبين أن يقيم بينة بأنها كانت في يده بالأمس ، ولا يحكم بها ، لأن ثبوت الملك يوجب دوامه إلا بحدوث سبب يوجب انتقاله وثبوت اليد لا توجب دوامها ، لأنها قد تكون بإجارة ترتفع بانقضاء مدتها ، فافترقا في القبول ، لافتراقهما في الموجب .

                                                                                                                                            وإذا وجب بما ذكرنا أن تكون البينة باليد المتقدمة ، غير مسموعة مع ما حدث من اليد الطارئة ، فإنما لا تسمع إذا كانت مقصورة على تقدم اليد فإن شهدت مع تقدم اليد بالسبب الذي انتقلت به إلى اليد الطارئة من غصب ، أو وديعة ، أو عارية وجب سماعها والحكم بها ، وهو معنى قول الشافعي ، لا إلا أن يقيم بينة أنه أخذها منه ، .

                                                                                                                                            يعني بما لا يوجب زوال الملك ، إما بمباح من وديعة ، أو عارية ، أو بمحظور من غصب وتغلب ، لأنه قد بان بالبينة ، أن اليد الطارئة غير موجبة للملك فثبت بها حكم اليد المتقدمة .

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو أقام بينة أنه غصبه إياها وأقام آخر البينة أنه أقر له بها فهي للمغصوب ولا يجوز إقراره فيما غصب " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا صحيح إذا كانت دار في يد رجل فتداعاها رجلان ، فقال أحدهما : هذه الدار لي غصبني عليها صاحب اليد ، وأقام على ذلك بينة .

                                                                                                                                            [ ص: 327 ] وقال الآخر : " هذه الدار لي ، أقر لي بها صاحب اليد ، وأقام على ذلك بينة :

                                                                                                                                            حكم بالدار للمغصوب فيه ، دون المقر له ، لأنه قد صار صاحب اليد بالبينة غاصبا ، وإقرار الغاصب مردود .

                                                                                                                                            وكذلك لو ادعاها الآخر أنه ابتاعها منه ، كان بيع الغاصب ، مردودا فإن قيل : فيجب على الغاصب غرم قيمتها لمن أقر له بها على أحد القولين كمن أقر بدار لزيد ، ثم أقر بها لعمرو ، وغرم لعمرو قيمتها في أحد القولين قيل : لا غرم عليه هاهنا ، قولا واحدا .

                                                                                                                                            والفرق بين الموضعين ، أن استهلاك الدار على المقر له في هذا الموضع ، كان بالبينة فلا يلزم المقر غرم ما استهلكه غيره .

                                                                                                                                            وفي مسألة الإقرار كان المقر قد استهلكها على الثاني بإقراره الأول ، فلزمه غرم ما استهلك .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية