الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما من قول من يقول: ولدوا على فطرة الإسلام، أو على الإقرار بالصانع، وإن لم يكن ذلك وحده أيمانا، أو على المعرفة الأولى يوم أخذ الميثاق عليهم - فهذه الثلاثة لا منافاة بينها، بل يحصل بها المقصود.

والكتاب - والسنة - دل على ما اتفقت عليه من كون الخلق مفطورين على دين الله، الذي هو معرفة الله والإقرار به، بمعنى أن ذلك موجب فطرتهم، وبمقتضاها يجب حصوله فيها، إذا لم يحصل ما يعوقها، فحصوله فيها لا يقف على وجود شرط، بل على انتفاء مانع.

ولهذا لم يذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- لموجب الفطرة شرطا، بل ذكر ما يمنع موجبها، حيث قال: « كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» ، كما قال تعالى: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون [سورة الروم:30-32]، فأخبر أن المشركين مفترقون.

ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: « إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه لا تشركوه به شيئا، وأنت تعتصموا بحبل الله جميعا [ ص: 455 ] ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم» .

وقد قال تعالى: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه [سورة الشورى:13]. وقال تعالى: كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين [سورة البقرة:13].

وقال تعالى: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون [سورة المؤمنون:51-53].

وأصل الدين الذي فطر الله عليه عباده، كما قال: خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا. فهو يجمع أصلين:

أحدهما: عبادة الله وحده لا شريك له، وإنما يعبد بما أحبه وأمر به، وهذا هو المقصود الذي خلق الله له الخلق، وضده الشرك والبدع.

والثاني: حل الطيبات التي يستعان لها على المقصود، وهو الوسيلة. وضدها تحريم الحلال. والأول كثير في النصارى، والثاني - وهو تحريم الطيبات - كثير في اليهود، وهما جميعا في المشركين. [ ص: 456 ]

ولهذا ذم الله تعالى المشركين على هذين النوعين في غير موضع من كتابه، كسورة الأنعام والأعراف، يذكر فيها ذمهم على ما حرموه من المطاعم والملابس وغير ذلك، وذمهم على ما ابتدعوه من العبادات التي لم يشرعها الله تعالى.

وفي الحديث: « أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة» ، فنعبده وحده بفعل ما أحبه، ونستعين على ذلك بما أحله.

كما قال تعالى: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم [سورة المؤمنون:51].

وهذا هو الدين الذي فطر الله عليه خلقه، فإنه محبوب لكل أحد، فإنه يتضمن الأمر بالمعروف الذي تحبه القلوب، والنهي عن المنكر الذي تبغضه، وتحليل الطيبات النافعة، وتحريم الخبائث الضارة.

التالي السابق


الخدمات العلمية