الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقد أشفى في الحديث بما فيه مقنع بقوله -صلى الله عليه وسلم-: « ما من مولود إلا وهو يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» ، وهو إجماع المسلمين أن الكافر لا يعاقب ويجلد على ما خلق، إنما يعاقب ويجلد على نيته وكسبه، وهو موضع إيثارهم لما نهاهم عنه، على ما أمرهم به من الإيمان، فكان تكذيبه لهم على كسب اكتسبوه، وفعل فعلوه، ونهي ارتكبوه، وأمر خالفوه، وهو ما أحدثوه، لا شيء جبلوا عليه ولا اضطروا له، ولا خلقوا مجبولين عليه، إذ لو خلقهم كفارا لكانوا إلى ذلك مضطرين، ولم يقل بذلك أحد من المسلمين. ألا ترى أنه لما خلقهم على معرفة لم يصح لهم ولم يقع غير ذلك، ولم يثابوا على ذلك؟ أعني: معرفة الربوبية، وهي الفطرة، ووجدنا الكفر يصح النقل عنه إلى [ ص: 498 ] الإيمان، ويقع الارتداد عن الإيمان إلى الكفر، فكان كمعرفة التوحيد الذي يقع اختيارا.

وقال سبحانه: فمنهم من آمن ومنهم من كفر [سورة البقرة:253] ولم يقل: منهم من خلقت مؤمنا، ومنهم من خلقت كافرا. وقال سبحانه: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون [سورة الأعراف:96]، فأعلمنا أن كذبهم وكفرهم هو كسبهم الذي حرمهم البركات، وعليه توعدهم بالعقوبات، وكون الكافر مخلوقا كافرا صراح بالجبر، ومن قال: ما سبق في العلم والنظر ولا هو داخل في القضاء والقدر، فهو قدري رديء. وقد لعنت القدرية والمرجئة، وكذلك المجبرة، والله لا يجبر أحدا على فعل، إذ لو جبر لكانوا عن التكليف خارجين كما جبلت الملائكة على الطاعة.

وقد قال سفيان، وأحمد، وسهل، والإمام، وأهل العلم: (إن الله لا يجبر على طاعة ولا على معصية، وهو الجبار الذي جبر القلوب على فطرتها) .

إلى أن قال: (قال سبحانه: وما ربك بظلام للعبيد [سورة فصلت:46]، مع كونه سبحانه فعالا لما يريد، وليس معنى (شاء) معنى (علم) ، ولا معنى (علم وشاء) معنى (خلق) ، فشاءهم وعلمهم [ ص: 499 ] وقدرهم وقضاهم مؤمنين وكافرين في حكم الكينونة، وهي العواقب التي لم يزل بها عالما، وعليها قادرا، ولها شائيا، ولم يخلقهم في العبودية والدينونة والبنية والتركيب كفارا، ولا إقرارا للزوم المطالبة والعبودية، ومحال أن يخلقهم لذلك ويتعبدهم، ويطالبهم، كما زعم أهل الإجبار، من ضرار وأصحابه، وسالكي البدعة، والمضاهي لهم بالعدوان والطغيان، والمغترين المحيلين على الأقدار، والمتمسكين بمعاذير ليست لهم بأعذار، لم يؤمنوا أن الأعمال محصاة، والعواقب مشهودة، وأعمالهم في القبضتين داخلة، وإلى المعبود صائرون، وعلى اكتسابهم محاسبون، وبها مؤاخذون.

قال أصدق القائلين: ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون [سورة المؤمنون:63]، وهل الكفر وغيره إلا عملان وكسبان؟ فمن زعم أنه ما سبق في علمه عواقبهم، وما قضى عليهم بما وجد منهم، ولا شاء ذلك في ملكه، ولا خلق أعمالهم، ولا أحصى سكونهم وحركاتهم، ولا شهد في القدم إلى ما إليه صائرون - فهو قدري ومعتلي، مكابر معتزلي، مدعي الحول والقوة، وأن الأمر إليه.

ومن زعم أنه كلفهم صبغة، وجبرهم على الأفعال، وجعل كسبهم [ ص: 500 ] مجازا، وأعمالهم لا صنع لهم فيها - فهو أخس القدرية، وأعتى المجبرة، وهو الغالي في دين الله، المرجئ المحيل بمعاصيه على ربه، وبفجوره على من تقدس عن كسبه، بل تنزه عما يقول الظالمون، ولم يزل عليما شائيا، حكيما عادلا متفضلا، منصفا محققا، مجبرا خالقا، آمرا ناهيا، غير عابث ولا تارك لأمورهم سدى، ولا لها مهملا، فخلق الكافر على الفطرة، وخلق كفره وشاءه في ملكه، ولم يجبره عليه ولا اضطره إليه، ولم يتوله، بل تبرأ منه، وتركه معه، ونهاه عن اعتقاده والتلبس به وبفعاله، وجعل له قدرة واستطاعة على كسبه، وتركه مع هواه، فلما دخل تحته، واعتقده في نفسه، واتصل به، واختاره وأحبه - كان كما ذكرنا في الجمع والتفرقة، والخلقة والكسب، فصار بما اعتقد واكتسب، كافرا، وسمي فاجرا، ولا هو لنفسه خالقا، ولا لكفره مخترعا، بل له مكتسبا، وبه اجتمع ففارق الإيمان والإحسان الذي أمر بمواصلتهما، فصار لذلك مجانبا، وخالط الكفر فصار فيه والجا، فتوجه نحوه التهديد، ولزمه الوعيد، فألزمه ما اكتسب، ورده إلى ما علم، وأدخله في وعيده، واستحق عقوبته، وخلده بنيته: وما ربك بظلام للعبيد [سورة فصلت:46].

وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: « يقول الله عز وجل: خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين» . وهذا نص من صاحب الشريعة جلي واضح لا شبهة فيه، يسفر عن إيضاح ما أوردناه، حنفاء عارفين على فطرته، [ ص: 501 ] وهي معرفة ربوبيته، والإقرار بوحدانيته، لا يقع بذلك كفر ولا إيمان، بل ذلك عليهم طارئ بالحكم الجاري، فخلق الكل على الفطرة، وأمر الكل بالإيمان، لصحة الدعوة، وعموم النصيحة، وأقدر الكل على ما أمر وأراد) .

التالي السابق


الخدمات العلمية