الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الوجه العشرون: أن يقال: حقيقة قول هذا الرجل، هو قول غلاة النفاة للعلم من سلفه، وهو أن الخالق تعالى لا يعلم شيئا: لا نفسه ولا غيره، فإن العلم لا يكون إلا بقيام صفة به، وإذا كان قيام الصفات به ممتنعا عندهم، امتنع كونه عالما بنفسه وبغيره. فهذا حقيقة ما قاله.

وأما كون المخلوقات هي العلم، فكلام لا حقيقة له، وإن كان يظن من يجهل معناه أن فيه إثباتا لعلم الله، فمن تصوره حق التصور علم أنه ليس فيه إثبات لعلم الله، وعلم بذلك أن ابن سينا وابن رشد وأبا البركات ونحوهم من الفلاسفة أقرب إلى صحيح المنقول وصريح المعقول، من النفاة الملحدين الذين قالوا في علم الله مثل هذا الافتراء.

ومعلوم أنه إنما دعاهم إلى ذلك القول بنفي الصفات، والأحوال الاختيارية التي تقوم بذات الله، وظنهم أن ذلك مستلزم للكثرة التي يجب نفيها، ومستلزم لتغير الأحوال الذي يجب نفيه. [ ص: 83 ]

ونفي هذين هو الذي أوقع نفاة العلم في نفيه، فإنهم رأوا إثبات العلم لا يمكن إلا مع إثبات الصفات اللازمة والأحوال العارضة، وظنوا وجوب نفي هذين.

وإذا كان العلم مستلزما لهذين، فلازم الحق حق، لا سيما ومهما قدر من توهم تنزيه وتعظيم في نفي لوازم العلم -لأن ثبوت العلم مستلزم ما يظن نقصا من تجسيم وحلول حوادث وغير ذلك- فنفي العلم فيه من النقص والعيب ما هو أحق بتنزيهه عنه من لوازم العلم، ونفي ما يناقض العلم هو أولى بالنفي، من نفي لوازم العلم.

والأدلة العقلية الصريحة، مع النقلية الصحيحة، إنما تدل على إثبات العلم ولوازمه، لا يدل شيء منها على نقيض ذلك، بل كل ما يظن من لوازم العلم أنه منفي بدليل العقل، يوجب ثبوته لا نفيه، ولكن هم استسلفوا مقدمات باطلة ظنوها عقلية، واحتاجوا إلى القول بلوازمها، فألجأهم ذلك إلى الأقوال الباطلة المخالفة لصريح المعقول وصحيح المنقول، مع أنها من أعظم الفرية على رب العالمين، وأعظم الجهل بما هو عليه سبحانه من نعوت الكمال. دع ما في ذلك من تكذيب رسله، والإلحاد في أسمائه وآياته.

والمقدمات الفاسدة التي بنوا عليها أقوالهم هي نفيهم صفاته سبحانه، وظنهم أنه لا تقوم به المعاني، وإن كانت قديمة النوع أو العين، ولهذا كان من تكلم منهم مع التزام هذا الأصل، فكلامه ظاهر البطلان، مع ما فيه من التناقض. [ ص: 84 ]

وقد تكلم في ذلك السهروردي المقتول صاحب "التلويحات" و"حكمة الإشراق" وغيرهما، مع تألهه على طريقتهم، ومع أنه في حكمة الإشراق سلك طريقا لم يقلد فيها المشائين، بل بين فساد أقوالهم فيها في مواضع، وكان كلامه في مواضع متعددة خيرا من كلامهم، وإن كانت سمة الإلحاد تتناولهم كلهم.

فالمقصود بيان الحق، وإذا كان بعضهم ينازع بعضا ويرد عليه، وكان أحدهما أقرب إلى الحق في ذلك الموضع من الآخر، كان بيان رد بعضهم على بعض بما قاله من الباطل مما يؤيد الله به الحق.

فرد عليهم دعواهم أن العقول عشرة. وهؤلاء المتأخرون يقولون: إنها الملائكة بلسان أهل الملل، ويسميها صاحب "حكمة الإشراق" الأنوار، ويقول: إن قدماء الفلاسفة وفلاسفة الفرس والهند يقولون: هي كثيرة أكثر مما أثبته المشاؤون، مع أنا قد بينا في غير هذا الموضع أن ما أثبته المشاؤون من العقول لا حقيقة له في الخارج البتة، وإنما الحق ما أثبته الله ورسوله من الملائكة التي أخبرت بها الأنبياء، ودلت عليها الدلائل العقلية.

والمقصود هنا مسألة العلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية