الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما الأمور المتجددة، مثل حركاتها، ومثل الكسوف والخسوف، والإهلال والإبدار، ومثل أشخاص الناس والحيوان، فهذه لا يتصور أن يعقلها إلا على وجه كلي، مثل أن يعلم أنه في كل شهر يحصل إهلال وإبدار، وفي كل سنة يحصل مصيف وشتاء. فأما العلم بإهلال معين [ ص: 162 ] وإبدار معين وكسوف معين، فهذا جزئي حادث كائن بعد أن لم يكن، زائل بعدما كان، فإن علمه بعينه لزم ما حذروه من التغير في علمه، فإنه إذا علمه قبل وجوده، علمه معدوما سيوجد، ثم إذا وجد علمه موجودا. ثم إذا زال علمه معدوما قد كان، وهذا الذي فروا منه.

ولو علم الجزئيات بأعيانها بعلم ثابت، لزم وجود ما لا نهاية له من المعقولات دائما في ذاته.

وأما قوله: مثل أن يعقل أن كسوفا جزئيا يعرض عند حصول القمر، وهو جزئي وقت كذا، وهو جزئي في مقابلة كذا، ثم ربما وقع ذاك الكسوف ولم يكن عند العاقل الأول إحاطة بأنه وقع أو لم يقع، وإن كان معقولا له على النحو الأول؛ لأن هذا إدراك آخر جزئي، يحدث مع حدوث المدرك، ويزول مع زواله، وذلك الأول يكون ثابتا الدهر كله، وإن كان عالما بجزئي.

فيقال: هذا الكسوف المعلوم أهو كسوف واحد بالعين أم بالنوع؟ فالأول أن يعلم أن الشمس تكسف في برج الحمل في السنة الفلانية سنة الطوفان.

والثاني أن يعقل أنها كلها إن حصلت في برج كذا على وجه كذا كسفت.

فإن قيل: إنه كسوف معين، فهذا إذا كان عقله ثابتا أبدا، يكون [ ص: 163 ] قد عقل قبل وجوده. وحينئذ يكون معدوما لا موجودا، والعلم بأنه موجود جهل، والعلم بأن سيوجد هو الذي فروا منه.

وإن قالوا: نعلم أنه إذا حصل الشيء المعين الجزئي حصل الكسوف، وإن لم نعلم متى يحصل ذاك.

قيل: فمثل هذا لا يكون إلا إذا كان المعلوم كليا، وهو أن نعلم أنه إذا حصل ذلك الأمر المعين على الوجه المعين حصل الكسوف، وهذا العلم كلي لا جزئي.

ففي الجملة الجزئي لا يكون جزئيا إلا إذا انحصر شخصه ومنع تصوره من وقوع الشركة فيه، وهذا إذا لم يكن أمرا ثابتا، بل أمرا حادثا، فلا يعلم على وجهه إن لم يعلم وقته المعين.

وحينئذ فيكون العلم به قبل وقته، وإلا فإذا علم أنه متى حصل كذا على وجه كذا حصل الكسوف، فهذا كلي.

وإن علم أنه لا بد أن يحصل، فإنه كلي من حيث الزمان، فإن تصوره لا يمنع اشتراك الأزمنة فيه، فلم يعلم إلا على وجه كلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه.

وقولهم مع هذا: إنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات والأرض، مغالطة بل لم يعلم شيئا من الأمور المعينة الحادثة البتة، بل هو عازب عنه، لا يدرى أكان أم لم يكن، فإن نفس تصور الكلي من [ ص: 164 ] حيث هو كلي، لا يفيد تصور المعينات، والوجود ليس فيه إلا المعينات، فلا يكون تصور شيئا من المعينات الحادثة.

التالي السابق


الخدمات العلمية