الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قلت: ونفي المماثلة قد يتضمن إثبات صفات الكمال للخالق، لا يثبت للمخلوق منها شيء، فكما أن في صفات المخلوق ما لا يثبت للخالق، فكذلك في صفات الخالق ما لا يثبت للمخلوق.

لكن هذا الضرب لا يمكن الناس معرفته في الدنيا، فلهذا لم يذكر.

قال: فنقول: أما ما صرح به الشرع من نفي صفات المخلوق عنه، فما كان ظاهرا من أمره أنه من صفات النقائص، فمنها الموت، كما قال تعالى: وتوكل على الحي الذي لا يموت [الفرقان: 58].

ومنها النوم وما دونه مما يقتضي الغفلة والسهو عن الإدراكات والحفظ للموجودات، وذلك مصرح به في قوله تعالى: لا تأخذه سنة ولا نوم [البقرة: 255].

ومنها النسيان والخطأ، كما قال تعالى: لا يضل ربي ولا ينسى [طه: 52]. [ ص: 247 ]

والوقوف على انتقاء هذه النقائص هو قريب من العلم الضروري.

وذلك أن ما كان قريبا من هذه من العلم الضروري، فهو الذي صرح الشرع بنفيه عنه سبحانه وتعالى، وأما ما كان بعيدا من المعارف الأولى الضرورية، فإنما نبه عليه بأن عرف أنه من علم الأقل من الناس، كما قال في غير ما آية من الكتاب العزيز: ولكن أكثر الناس لا يعلمون [الروم: 30]: مثل قوله: لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس [غافر: 57].

ومثل قوله: فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون [الروم: 30].

قال: فإن قيل: فما الدليل على انتفاء هذه النقائص عنه، أعني: الدليل الشرعي؟ قلنا: الدليل عليه ما يظهر من أن [ ص: 248 ] الموجودات محفوظة لا يتخللها اختلال ولا فساد، ولو كان الخالق يدركه خطأ أو غفلة، أو سهو أو نسيان لاختلت الموجودات.

وقد نبه سبحانه على هذا المعنى في غير ما آية من كتابه. فقال تعالى: إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده [فاطر: 41]، قال تعالى: ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم [البقرة: 255].

قال: فإن قيل: فما تقولون في صفة الجسمية: هل هي من الصفات التي صرح الشرع بنفيها عن الخالق تعالى؟ أم هي من المسكوت عنها؟ أو أنه لم يصرح بنفيها ولا إثباتها، ولكن صرح بأمور تلزم -يعني الجسمية في بادي الرأي منها- فنقول: إنه من البين من أمر هذه الصفة أنها من الصفات المسكوت عنها، وهي إلى التصريح بإثباتها في الشرع أقرب منها إلى نفيها، وذلك أن الشرع [ ص: 249 ] قد صرح بالوجه واليدين في غير آية من كتابه، وهذه الآيات قد توهم أن الجسمية هي له من الصفات التي فضل فيها الخالق المخلوق، كما فضله في صفة القدرة والإرادة وغير ذلك من الصفات، التي هي مشتركة بين الخالق والمخلوق، إلا أنها في الخالق أتم وجودا.

ولهذا صار كثير من أهل الإسلام إلى أن يعتقد في الخالق أنه جسم لا يشبه الأجسام، وعلى هذا الحنابلة وكثير ممن تبعهم.

وهؤلاء أيضا قد ضلوا إذ صرحوا بما ليس حقا في نفسه، وما يوهم أيضا التشابه بين الخالق والمخلوق. وإنما صرح الشرع بأشياء توهمها لا يضر، فتوهمها من كان من الناس لا يقدر أن يتصور موجودا ليس بجسم، ولا أيضا إذا سمع تلك الأشياء خيف عليه أن يتطرق ذهنه إلى القول بالجسمية.

وهذه هي حال جمهور الناس؛ لأن الذين يتطرق لهم من ذلك إثبات الجسمية هم قليل من الناس، وهؤلاء ففرضهم الوقوف على الدلائل التي توجب نفي الجسمية.

التالي السابق


الخدمات العلمية