الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 67 - 68 ] ثم وقوع البائن بما سوى الثلاثة الأول مذهبنا . وقال الشافعي : يقع بها رجعي لأن الواقع بها طلاق ، [ ص: 69 ] لأنها كنايات عن الطلاق ولهذا تشترط النية وينتقص به العدد ، والطلاق معقب للرجعة كالصريح .

ولنا أن تصرف الإبانة صدر من أهله مضافا إلى محله عن ولاية شرعية ، ولا خفاء في الأهلية والمحلية ، والدلالة على الولاية أن الحاجة ماسة إلى إثباتها كي لا ينسد عليه باب التدارك ولا يقع في عهدتها بالمراجعة من غير قصد ، [ ص: 70 - 71 ] وليست كنايات على التحقيق لأنها عوامل في حقائقها ، والشرط تعيين أحد نوعي البينونة دون الطلاق ، وانتقاص العدد لثبوت الطلاق بناء على زوال الوصلة ، وإنما تصح نية الثلاث فيها لتنوع البينونة إلى غليظة وخفيفة ، [ ص: 72 ] وعند انعدام النية يثبت الأدنى ، ولا تصح نية الاثنتين عندنا خلافا لزفر لأنه عدد وقد بيناه من قبل .

التالي السابق


( قوله : ثم وقوع البائن بما سوى الثلاثة الأول مذهبنا وقال الشافعي : يقع بها رجعي لأن الواقع بها طلاق ) والطلاق بلا مال يعقب الرجعة [ ص: 69 ] بالنص ، ولا حاجة إلى إثبات الأول بأنها كنايات عنه حتى أريد هو بها ليدفع بأن كونها كنايات مجاز بل عوامل بحقائقها كما سنذكر بل يكتفي بالاتفاق على أن الواقع طلاق والثاني بالنص .

فإن قيل : النص إنما أفاد الرجعة بالطلاق الصريح منعناه لأن قوله تعالى { الطلاق مرتان } المعقب بقوله { وبعولتهن أحق بردهن } أعم من الطلاق الصريح وغيره لأن النسبة إلى معنى اللفظ لا إلى اللفظ ، غير أنه خص منه الطلاق على مال بالنص المقارن لها أعني نص الافتداء لما عرف من أن الافتداء لا يتحقق إلا بالبينونة وإلا يذهب مالها ولا يفيد .

والحاصل أن الكتاب يفيد أن الطلاق يعقب الرجعة إلا ما كان على مال أو ثلاثا . واستدل المصنف بقوله ولنا أن تصرف الإبانة صدر من أهله مضافا إلى محله عن ولاية شرعية ، ولما استشعر منع ثبوت الولاية شرعا أثبتها بقوله : الحاجة ماسة إلى إثبات الإبانة كي لا ينسد عليه باب التدارك ولا يقع في عهدتها بالمراجعة من غير قصد فقرر بأن المشروعات لدفع حاجة العباد ، والزوج قد يحتاج إلى الإبانة بهذه الصفة فتكون هذه الولاية ثابتة دفعا لحاجته ; لأنه لو أبانها بالثلاث عصى ، ولو طلقها رجعيا ربما تتراءى له مصلحة في الرجعة فيراجعها فيبدو له فيطلقها ثانيا وثالثا فيؤدي إلى استيفاء العدد وهو حرام وفيه ينسد باب التدارك ، فشرع له الإبانة على وجه يمكنه التدارك لبقاء المحلية حتى لو بدا له أمكنه التزوج ولا يخفى بعده عن اللفظ .

والأوجه في هذه العبارة هكذا قد يحتاج إلى الإبانة والثلاث بكلمة " حرام " وتفريقها على ما ذكر كذلك فلزم أن تشرع له الإبانة على هذه الصفة يعني شرع الواحدة البائنة . والأقرب إلى اللفظ ما قيل : إنه قد يحتاج إلى الإبانة كي لا يقع في الرجعة بغير قصد منه بأن تفجأه المرأة [ ص: 70 ] فتقبله بشهوة فيصير مراجعا وهو لا يريدها فيحتاج إلى طلاق ثان وثالث فينسد باب التدارك ، فهو لأجل ذلك محتاج إلى أن تشرع له الإبانة كذلك كي لا تفوت هذه المصلحة .

ودفع بأن هذه مصلحة ، وثبوت التمكن من إعادتها إذا ظهر له من نفسه طلبها وتغير رأيه مع أن الإنسان محل التغير مصلحة أخرى أكيدة ، إذ كثيرا ما يقع ذلك بل وقوعه بالمشاهدة أكثر من وقوع طلاق لم تدع النفس بعده إلى مراجعة ، ومع الإبانة لها أن تمتنع فيحصل له ضرر شديد ، وهذه لا تترتب إلا على عدم الإبانة فاقتضت عدم شرعيتها ، بخلاف تلك إذ يمكن تحصيلها مع عدم شرعية الإبانة بيسير من الاحتراس من فجأتها مقبلة ونحوه ، فكان اعتبار منع الإبانة أجلب للمصلحة من غير تفويت المصلحة الأخرى ، فإن أردت تخصيص نص إعقاب الطلاق الرجعة بالقياس بعد تخصيصه بالافتداء نصا لأن التخصيص بالقياس بعد التخصيص بالنص جائز لم يتم المعنى فيه ولم يلزم ; لأن حاجته إلى الخلاص بالإبانة ليس كحاجة المرأة لتمكنه من الإبانة على وجه لا يعقب الندم لتركها بعد الرجعة حتى تنقضي العدة أو تفريق الثلاث على الأطهار بخلافها فلم يتوقف دفع حاجته على شرعية الواحدة البائنة ولذا رجحنا كراهة الواحدة البائنة في أوائل كتاب الطلاق بعدما حققنا سبب تحقق الحاجة إلى الإبانة من الفطام .

هذا ولا يخفى أن المعنيين أعني عدم انسداد باب التدارك وباب الرجعة إذا تغير رأيه من باب دفع المفسدة لا جلب المصلحة . والوجه في الاستدلال أن يقال : لما أثبت الشرع الإيقاع بهذه الألفاظ فقد أثبت الإبانة لأنها معناها ، وقوله : الطلاق مرتان أي المسنون للاتفاق على صحة وقوع الثلاثة بمرة واحدة خصوصا عنده فإنه غير مكروه وأيضا لفظ بائن مثلا يقع به البينونة الغليظة بفم واحد فتقع به الخفيفة كالطلاق لما وقع بالغليظة وقع به الخفيفة .

وأيضا خص منه الطلاق بمال فلم يبق العموم منه مرادا فحاصله الطلاق المسنون بلا مال يعقب الرجعة فقد أخرج منه ذلك ، وحين ثبت شرع الإيقاع بلفظ بائنة ثبت أيضا إخراج الواحدة البائنة بلا مال لأن شرع الإيقاع به هو جعل اللفظ سببا لوجوب معناه ومعناه البينونة ، والدلالة على إيقاع الثلاث شرعا به تحليفه صلى الله عليه وسلم أبا ركانة حين طلقها ألبتة أنه ما أراد إلا واحدة ، وشرح قوله وليست كنايات على التحقيق لأنها عوامل في حقائقها : يعني لا تردد في المراد للقطع بأن معنى بائن الحقيقي الذي هو ضد الاتصال مراد ، وكذا البت والبتل : القطع ، والتردد إنما هو في متعلقها : أعني الوصلة وهي أعم من وصلة النكاح والخيرات والشر ، فإذا تعين بالنية عمل [ ص: 71 ] بحقيقته ، وكذا معنى الحرام والخلية والبرية معلوم والتردد في كونه بالنسبة إليه أو إلى غيره من الرجال ، فإذا عين المراد بالنية عمل اللفظ بوضعه ، وإنما أطلق عليه كناية مجازا للتردد في ذلك المتعلق الذي به يتعين الفرد المستعمل فيه اللفظ .

والوجه أن إطلاق اسم الكناية حقيقة لأن الكناية لا تساوي المجاز بل قد تكون حقيقة لأنها بتعدد المعنى وقد تكون حقيقة فيها ، وقد حقق في نحو : طويل النجاد وكثير الرماد أن المراد حقيقة طول النجاد وكثرة الرماد ، لكن لا يقتصر عليه بل ليعبر منه إلى طول القامة وكثرة الأضياف ، فالوجه أن يقال : كونها كناية لا يستلزم كونها مجازا عن الطلاق .

وتحقيقه أنه مشترك معنوي من قبيل المشكك ، فالقطع المتعلق بالنكاح فرد من نوع ما يتعلق به والمتعلق بالخير والشر كذلك ، فإذا لم يذكر متعلقه احتمل كما يحتمل رجل كلا من زيد وعمرو وغيرهما .

والوجه أن يقول : إنها عوامل بحقائقها أو بحقيقة ما استعملت فيه ، وهذا لأن نحو : حبلك على غاربك مجاز عن التخلية والترك وهو بالبينونة ، وكذا وهبتك لأهلك لتعذر حقيقة الهبة : أعني التمليك فهو مجاز عن رددتك على ما قدمناه ، وقياس الباقي سهل ، وبهذا ظهر أنه لا يراد بها الطلاق بل البينونة لأنها هي معنى اللفظ الدائر في الإفراد وهي متنوعة إلى غليظة وهي المترتبة على الثلاث ، وخفيفة كالمترتبة على الخلع فأيهما أراد صح ، ويثبت ما يثبت بلفظ طالق على مال وطالق ثلاثا .

وحاصله أن ما يثبت عند طالق شرعا لازم أعم يثبت عنده وعند هذه الألفاظ [ ص: 72 ] والخلع ، فقولنا : يقع به الطلاق حينئذ معناه يقع لازم لفظ الطلاق شرعا ، وانتقاص عدده هو بتعدد وقوع ذلك اللازم واستكماله في ذلك وبإرسال لفظ الثلاث ، بل معنى وقع الطلاق وقع اللازم الشرعي لأنه هو معنى لفظ الطلاق على ما يفيده ما أسلفناه في فاتحة كتاب الطلاق فارجع إليها ، فالواقع بالكناية هو الطلاق بلا تأويل .

وتقرير المصنف أن الواقع البينونة بالكنايات ثم ينتقص العدد بناء على زوال الوصلة . وهذا جواب عن قول الشافعي وينتقص به وهو بناء على أنه غيره ، وأنت تعلم أنه لا يلزم من زوال وصلة النكاح وقوع الطلاق لتحقق زوالها في الفسوخ مع عدم الطلاق .

والجواب أن زوال الوصلة لا بد أن يستعقب في غير الفسخ النقصان ، والاتفاق على أن الثابت بالكناية ليس فسخا فلزمه نقصان العدد ( قوله : ولا تصح نية الثنتين ) أي بالكنايات عندنا خلافا لزفر ، وقد بيناه من قبل في باب إيقاع الطلاق في التطليق بالمصدر .




الخدمات العلمية