الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 183 ] ( وإذا طلق الحرة تطليقة أو تطليقتين وانقضت عدتها وتزوجت بزوج آخر ثم عادت إلى الزوج الأول عادت بثلاث تطليقات ويهدم الزوج الثاني ما دون الثلاث كما يهدم الثلاث . وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله . وقال محمد رحمه الله : لا يهدم ما دون الثلاث ) [ ص: 184 ] لأنه غاية للحرمة بالنص فيكون منهيا ، ولا إنهاء للحرمة قبل الثبوت . ولهما قوله عليه الصلاة والسلام { لعن الله المحلل والمحلل له } [ ص: 185 ] سماه محللا وهو المثبت للحل

التالي السابق


( قوله ويهدم الزوج الثاني الطلقة والطلقتين ) يعني إذا كان دخل بها ، ولو لم يدخل لا يهدم بالاتفاق ، وتقييده في صورة المسألة بالحرة لوضعها في هدم الطلقة والطلقتين ولا يتحقق في الأمة إلا هدم طلقة واحدة ، لا لأنه لا هدم في الأمة أصلا ( قوله وقال محمد لا يهدم ) والمسألة مختلفة بين الصحابة ، فروى محمد عن أبي حنيفة عن حماد بن أبي سليمان عن سعيد بن جبير [ ص: 184 ] قال : كنت جالسا عند عبد الله بن عتبة بن مسعود إذ جاءه أعرابي فسأله عن رجل طلق امرأته تطليقة أو تطليقتين ثم انقضت عدتها فتزوجت زوجا غيره فدخل بها ثم مات عنها أو طلقها ثم انقضت عدتها وأراد الأول أن يتزوجها على كم هي عنده ؟ فالتفت إلى ابن عباس وقال : ما تقول في هذا ؟ قال : يهدم الزوج الثاني الواحدة والثنتين والثلاث ، واسأل ابن عمر ، قال : فلقيت ابن عمر فقال مثل ما قال ابن عباس .

وروى البيهقي من طريق الشافعي بسنده عن عمر في نحوه قال : هي عنده على ما بقي ، ونحوه عن علي .

ونقل عن أبي بن كعب وعمران بن الحصين فأخذ المشايخ من الفقهاء بقول شبان الصحابة وشبان الفقهاء بقول مشايخ الصحابة والترجيح بالوجه ( قوله لأنه غاية للحرمة ) أي لأن الزوج غاية للحرمة الثابتة بقوله تعالى فلا تحل له أي مطلقا لا بنكاح ولا بملك يمين حتى تنكح زوجا غيره فيكون : أي الزوج منهيا للحرمة ، ولا إنهاء للحرمة قبل الثبوت : أي ثبوتها فاللام بدل الإضافة ولا ثبوت لها إلا بعد الثلاث فلا يكون منهيا قبلها ، فصار كما لو تزوجها قبل التزوج أو قبل إصابة الزوج الثاني حيث تعود بما بقي من التطليقات .

قلنا : قد عملنا بالنص وجعلناه منهيا للحرمة في صورة الحرمة الغليظة ، لكن ثبت له وصف آخر بنص آخر وهو إثبات الحل مطلقا قلنا به وتركتم أنتم العمل به وهو الحديث المذكور آنفا .

وجه الاستدلال أنه سماه محللا ، وحقيقته مثبت الحل كالمحرم والمسود والمبيض وغيرها مثبت الحرمة والسواد ونحو ذلك .

فإن قلت : تقدم آنفا أن محمل الحديث الشارط للحل للعلم قطعا أنه من حيث هو مثبت للحل ليس متعلق اللعنة وإلا لتعلقت بالمتزوج تزويج رغبة فلا بد من كون متعلق اللعنة على ما قالوا شارط الحل فلا يكون فيه دليل على أنه مثبت للحل الجديد شرعا لأنه لم يرد بالمحلل مثبت الحل بل شارطه .

قيل : لا شك أن الزوج يثبت به الحل وهو المراد من مثبت الحل ، فالمعنى حينئذ : لعن الله مثبت الحل إذا شرط الحل ، فلا يكون شارط الحل مرادا بلفظ من التركيب المذكور بل كله مضمر ، ففيه حينئذ دليل على أن الزوج مثبت الحل وتعليق اللعنة به إذا شرطه ، وبه يندفع ما قدمناه ، ويظهر أن المراد من قول المصنف فيما تقدم وهو محمل الحديث أن محمله لعنة المحلل إذا شرطه لأن المراد بالمحلل في لفظ الحديث هو الشارط للحل لما بينا من أنه لا بد من كونه مثبتا له .

نعم يرد عليه ما قيل إنه لما جعل محللا في صورة الحرمة الغليظة فلا يلزم ثبوته في غيرها .

وأجيب بأنه يثبته فيها بدلالته لأنه لما كان محللا في الغليظة ففي الخفيفة أولى .

وأيضا بالقياس عليه في صورة الحرمة الغليظة بجامع كونه زوجا لأن صورة الحرمة الغليظة محل والمحل لا يدخل في التعليل ، لأنه لو دخل لانسد باب القياس لأن محل الأصل غير محل الفرع .

وأورد عليه أن ذلك حيث يمكن ولا يمكن هنا لأن الحل ثابت فيه ، وتحصيل الحاصل محال .

أجيب إن لم يقبل المحل أصل الحل يقبل ثبوت وصف [ ص: 185 ] الكمال فيه ، بأن يصير بحيث يملك تجديده بعد الطلقة والطلقتين ، وما صلح سببا لأصل الشيء صلح سببا لوصفه بالطريق الأولى ، وفيه نظر ، إذ غاية ما تحقق من الشارع تسميته محللا ، ومفهومه لا يزيد على أنه مثبت لمجرد الحل وهو حاصل في المتنازع فيه ، وكون الحل على الوجه المذكور ليس من مفهومه ، وثبوته كذلك في صورة الحرمة الغليظة ليس منه بل باتفاق الحال ، وهو أنه محل ابتدأ فيه الحل لاستيفاء الزوج ماله من الطلقات قبله ، وحيث ابتدأ ثبوت الحل كان ثلاثا شرعا ، فظهر أن القول ما قاله محمد وباقي الأئمة الثلاثة ، ولقد صدق قول صاحب الأسرار : ومسألة يخالف فيها كبار الصحابة يعوز فقهها ويصعب الخروج منها ، وقد يستدل على المطلوب بحديث العسيلة حيث قال صلى الله عليه وسلم { أتريدين أن تعودي إلى رفاعة ؟ قالت : نعم ، قال لا حتى تذوقي عسيلته } فغيا عدم العود بالذوق .

فعنده ينتهي عدمه ويثبت هو ، والعود هو الرجوع إلى الحالة الأولى وهي ما يملك فيها الزوج ثلاث تطليقات ، وليس بشيء لصدق حقيقته قبل الزوج الثاني لو قال بعد الطلقة والطلقتين بلا تحلل زوج أتريدين أن تعودي إلى فلان صدق حقيقته وإن كان العود لا إلى ما يملك به ثلاثا .

فالحاصل أن العود إلى عين الحالة الأولى محال ، فالمراد العود إلى شبهها وذلك يصدق بمجرد ملك النكاح والحل لانتفاء اشتراط عموم وجه التشبيه




الخدمات العلمية